أغلقت 50 شركة أبوابها في مناطق سيطرة النظام، خلال الأشهر الثلاثة اﻷخيرة فقط، وسط تراجع وانحدار مستمر للاقتصاد، بينما تزيد القيود والضرائب واﻹتاوات على التجار وما تبقّى من أصحاب رؤوس اﻷموال، وتسجّل الليرة السورية هبوطاً مستمراً أمام الدولار وباقي العملات الأجنبية.
وفيما فضّل أصحاب الشركات المغلقة الصمت تجاه أسباب اﻹغلاق، ورفضوا التعليق على أسئلة إحدى الصحف الموالية، فقد اشتكى تجار “الحريقة” و”الحميدية” في دمشق من تسلّط أجهزة أمن النظام، حيث تجري عمليات مصادرة للأموال بدعوى “التعامل بغير الليرة السورية”.
ووسط هذا التراجع تزداد أعداد العقود الموقعة مع الشركات اﻹيرانية، التي تستثمر أموالها في العاصمة دمشق، وفي الساحل، وأماكن أخرى، مع تسهيلاتٍ مقدّمة من النظام، مما يثير الشكوك لدى متابعين، حول ما إذا كان هناك تهجير متعمّد للسوريين من أصحاب اﻷموال والمشاريع، ﻹفراغ البلاد أمام إيران واستثماراتها.
ويبلغ عدد الشركات (باستثناء المعامل) التي أغلقت أبوابها في مناطق سيطرة اﻷسد منذ مطلع العام الجاري 79 شركة، أي أن ما تمّ إغلاقه خلال اﻷشهر الثلاثة الماضية هو 75 بالمئة من مجمل العدد.
ولفت تقرير سابق إلى إغلاق أكثر من 60 معملاً في منطقة حماة فقط، خلال الفترة بمنتصف العام الجاري، جراء استمرار انقطاع الكهرباء وندرة وغلاء المحروقات، فيما تجري عمليات اقتلاع لأشجار الحمضيات في الساحل، وانحسار كبير للزراعة في كافة مناطق النظام.
هل ما يحدث عشوائي أم مخطط؟
يرى الخبير الاقتصادي “فراس شعبو” في إفادته لـ”حلب اليوم” أن ما يحدث “ليس عشوائياً أبداً بل هو أمر مخطط وعملية ممنهجة”، وأن الأمر أكبر من مجرّد استغلال إيراني للفراغ السوري.
وباتت “أربيل” في “كردستان العراق” ومصر أبرز الوجهات التي يفرّ إليها التجار وأصحاب الشركات “المفلسة”، وما يزيد اﻷمر غرابةً هو سهولة وسرعة إصدار جوازات السفر، حتى إن النظام خصص بوابة إلكترنية لتيسير الموضوع أمام المتقدمين إليه، مع تخصيص فئة “جواز مستعجل” لمن يرغب.
يقول “شعبو” إن “مايحدث في سوريا من عمليات تهجير وإفراغ البلاد من الرأسماليين والصناعيين والتجار والأدمغة هو عملية مدروسة”، إذ إن إيران “تحاول الاستفادة من وجودها في سوريا قدر المستطاع كنقطة متقدمة وتسعى للاستفادة الاقتصادية بأقصى حدّ”.
ويتهم عراقيون طهران بتخريب اقتصاد بلادهم والتحكم بالسوق لصالحها، وتحويل العراق ليس فقط إلى حديقة خلفية لسياساتها فقط إنما أيضاً لاقتصادها، وبتواطؤ من أتباعها داخل حدود البلاد.
وفي إجابته على سؤال حول ما إذا كان هذا الحال في سوريا؛ قال الخبير الاقتصادي السوري إن إيران تحاول إضعاف النظام والسيطرة على مقدرات البلاد بشكلٍ أساسي، حالها حال روسيا في ذلك.
وأوضح أنها تعمل بالفعل على استخدام الساحة السورية لعدة غايات، أبرزها الالتفاف على العقوبات وأن تصبح المعامل والشركات اﻹيرانية قريبة من نقاط التنقل كالموانئ والخطوط الموصلة ﻷوروبا من خلال تركيا والدول العربية.
النظام مرهون ومديون ﻹيران
يؤكد موقعٌ موالٍ للنظام أن سياسته المالية مع إيران تسببت بديون ثقيلة على الخزينة العامة لصالحها، قد تُبقي الدولة السورية مكبلة بها لسنوات أو عقود، وتحديداً في ملف المحروقات، حيث يعتمد على مصدرين أساسين هما النفط المستورد من إيران عن طريق البحر، والذي يتم تكريره في مصفاتي “بانياس” و”حمص” غربي البلاد، إضافة إلى المشتقات التي يستقدمها من قوات “قسد” شمال شرقي البلاد عن طريق مجموعتي “قاطرجي” و”حمشو”.
وكانت آخر ناقلتي نفط قد وصلتا إلى مرفأ بانياس في مطلع تموز/ يوليو الماضي، ورغم إعلان تفريغ حمولتهما إلا أن شيئاً لم يتغيّر على أرض الواقع، ليبرّر وزير النفط والثروة المعدنية الشحّ المستمر بالحاجة إلى الوقت حتى يُستكمل التكرير والتوزيع، وقد انقطعت أخبار النفط القادم من إيران منذ ذلك الحين وسط حديث مستمر من مسؤولي النظام حول “انفراجة قريبة”.
كشف موقع “أثر برس”، في تقرير نشره خلال شهر آب/ آغسطس الماضي، أن نظام اﻷسد يستورد النفط من إيران بالدين، والذي يتراكم على الخزينة العامة للدولة السورية، فيما يرفع أسعاره داخلياً بشكل مستمر على حساب السوريين بدعوى غلاء اﻷسعار العالمي.
وأكد المصدر نفسه أن حكومة اﻷسد تستقدم النفط بخطّين ائتمانيّين؛ اﻷول “عام” وهو بمنزلة دين على “الحكومة السورية” والثاني “خاص” تتمّ تسوية أموره المالية بين المستوردين والحكومة اﻹيرانية.
وفيما لا يُعرف بالضبط كيف تجري الترتيبات في ملف خط الائتمان “الخاص” فإن “العام” يشكّل القطاع اﻷكبر في استيراد النفط، لكنّ “النفط الذي يكرّر في مصفاتي بانياس وحمص ويباع للسوريين، لا يدفع النظام ثمنه ﻹيران بشكل آني، أي أن “السوريين سيدفعون قيمة المشتقات النفطية مرّتين؛ المرة اﻷولى مع تسديد ثمن المخصصات، والمرة الثانية ستكون “غداً” مع “المباشرة بتسديد الدين الخارجي”.
وتذهب عوائد بيع النفط للسوريين والمستجرّ بالدين لتغطية “النفقات الحكومية” بدلاً من دعم العملية اﻹنتاجية، وهو ما “يتسبب بحدوث موجات جديدة من التضخّم” والتي تنعكس بدورها على ارتفاع أسعار مختلف المواد.
هل هناك تنافس أم اتفاق بين روسيا وإيران على الفريسة السورية؟
يؤكد “شعبو” في حديثه لـ”حلب اليوم” أن هناك “تقاسماً بين روسيا وإيران، وكل طرف يعرف ماله وما عليه وهذا واقع الحال في سوريا”.
و تضع إيران يدها على المشاريع التجارية في الغالب، بينما يضع الروس أيديهم على مشاريع إستراتيجية كالثروات الباطنية والمنافذ البحرية والجوية.
وحازت روسيا مؤخراً على ثروة كبيرة في منطقة “خناصر” جنوبي حلب، تتمثل في 38 مليار طن من “السجيل الزيتي”، والذي يمكن استخدامه بدلاً من “الفيول” لتوليد الكهرباء.
كما وقّع الروس مطلع الشهر الجاري في دمشق على جملة اتفاقات تشمل (مشروع ضواغط جنوب المنطقة الوسطى ومشروعي “توينان والبلعاس” مع شركة “إس تي ج إنجينيرنغ” ومشروع استكمال محطة “تشرين” الحرارية مع شركة “تكنوبروم إكسبورت”، إضافةً إلى مشاريع الفوسفات مع شركة “إس ت ج لوجستك” ومشاريع شركات الاستكشاف البري والبحري).
ووقعت عشرات الشركات الروسية على مشاريع مع النظام في مناطق سيطرته على مدى السنوات الماضية، ومن أبرز تلك المشاريع استخراج الفوسفات من البادية السورية.
ويرى الخبير الاقتصادي السوري أن هناك تواطؤاً بين روسيا وإيران، مضيفاً بالقول: “عندما نقرأ المشهد بشكل كلي نرى أن النظام يعاني من مشاكل في الغذاء والطاقة وأكبر دولتين في مجال الغذاء والطاقة هما روسيا وإيران وأكبر داعمين للأسد هما روسيا وإيران، ولكنهم يريدون إضعافه”.
وتسعى الدولتان، وفقاً لشعبو، إلى الحصول على “امتيازات وعقود طويلة الأجل كما حدث في ملف الموانئ والمطارات وما سيحدث في مجال الفوسفات فضلاً عن عقود الطاقة والطرق والكهرباء”.
واعتبر أن ما يجري في سوريا هو “تفكيك للاقتصاد بشكل ممنهج، حتى يستطيعوا السيطرة على كافة مفاصل اقتصاد الدولة”.
وبينما يفرض ضباط اﻷمن بمن فيهم ضباط أمن القصر الجمهوري، إتاواتٍ معلنة على التجار، تزيد دوريات “الجمارك” من نشاطها، لابتزاز أصحاب المحال والشركات، وخصوصاً شركات الصرافة والحوالات.
ويعاني أكثر من 12 مليون سوري انعداماً في اﻷمن الغذائي، وفقاً لتقارير اﻷمم المتحدة، وسط تفاقم للمعاناة وتزايد لمعدلات الفقر، فيما يمنع النظام بقبضته الأمنية أية احتجاجات، ويشدّد رقابته على مواقع التواصل الاجتماعي، ويفرض العقوبات على منتقدي اﻷوضاع العامة، تحت عنوان “الجرائم اﻹلكترونية”.
ولا تمكن قراءة المشهد الاقتصادي السوري في المناطق التي تسيطر عليها ميليشيات إيران، بمعزل عن جهودها العامة في نشر التشيّع، واستهداف اﻷجيال الجديدة والشابة، ضمن مخطط يبدو أنه طويل اﻷمد ومستكمل العناصر، للاستحواذ على البلاد بشكلٍ لم يفعله أي احتلالٍ أجنبيٍ مرّ على السوريين.