لا يزال ملف النفوذ الروسي في سوريا عقب سقوط الأسد مطويا، في انتظار ما ستؤول إليه المفاوضات بين موسكو ودمشق، فيما تبدو حكومة تصريف الأعمال مستعدة لمناقشة الموضوع، مع بقاء القواعد الروسية في سوريا بحالة جمود حتى اليوم.
وكان الروس قد سحبوا نقاطهم ودورياتهم العسكرية من جنوبي البلاد، قرب الحدود السورية بالجولان المحتل، ووسطها، باتجاه قاعدة حميميم، وذكرت بعض المصادر المحلية سحب قسم من العتاد من سوريا بشكل كامل عبر قاعدة طرطوس، وذلك بالتزامن مع تحرير العاصمة دمشق.
كما تمّ سحب منظومات الدفاع الجوي الروسية من الساحل السوري غربي البلاد، باتجاه قاعدة طرطوس البحرية، لتبقى قاعدة حميميم الجوية محاصرة، دون أي نشاط عسكري يُذكر، وسط غموض حول مستقبل القاعدتين في سوريا.
وأكد عدة مسؤولين روس استمرار التواصل مع دمشق، مبدين موقفا مرنا تجاه الإدارة الجديدة، وكانت آخر تلك التصريحات ما أدلى به وزير الخارجية، سيرغي لافروف، أمس الثلاثاء، حيث قال إن بلاده تريد المساهمة في الجهود الرامية لتحسين الوضع في سوريا، ولن تغادر المنطقة.
وفي تعليقه على ذلك، قال المحلل السياسي الروسي ديمتري بريجع، لموقع حلب اليوم، إن روسيا تسعى بجدية للحفاظ على وجودها العسكري في سوريا، خاصة في قاعدتي حميميم وطرطوس، حتى بعد سقوط الأسد، متوقعا أن توافق حكومة تصريف الأعمال على ذلك.
من جانبه اعتبر الدكتور محمود حمزة، المحلل والخبير بالشأن الروسي، في إفادته لحلب اليوم أن روسيا تريد الحفاظ على قواعدها العسكرية المذكورة، مؤكدا أن هذا هدف إستراتيجي وجيوسياسي بالنسبة لها، ولكن عليها أن تقدم ثمنا لذلك.
ما أهمية القواعد بالنسبة للروس بعد سقوط الأسد؟
أوضح الدكتور حمزة أن تثبيت القواعد الروسية في سوريا كانت أحد أكبر أهداف موسكو، بل إن سبب تدخلها العسكري هو إيجاد قواعد عسكرية لها وتثبيت أقدامها في سوريا والمنطلقة، لتحويل سوريا إلى قاعدة للتوجه نحو أفريقيا وشمال أفريقيا والمناطق الأخرى.
وأشار إلى أن سوريا تعتبر بالنسبة لروسيا موقعا إستراتيجيا مهما، والقواعد فيها هي لحماية المصالح الروسية، بينما أصبح استمرار هذه القواعد الآن حقيقة في خطر بعد سقوط الأسد.
وألقى لافروف في تصريحاته أمس باللوم على بشار الأسد، معتبرا أن “عدم رغبته في تغيير أي شيء، وتقاسم السلطة مع المعارضة كان من أهم أسباب انهياره”.
وأضاف في مؤتمر صحفي:”على مدار السنوات العشر الماضية بعد أن طلب من روسيا التدخل، وبعد إقامة صيغة أستانا ومساعدة الدول العربية، أبدت السلطات في دمشق مماطلة في العملية السياسية ورغبة في إبقاء الوضع على ما هو عليه”.
لكن بريجع أكد أن سبب التدخل الروسي وإنشاء هذه القواعد هو كون “حميميم” و”طرطوس” محوريتين لنفوذ موسكو في البحر الأبيض المتوسط، بما يتيح لها تعزيز حضورها الإقليمي ومواجهة التحديات الجيوسياسية.
هل توافق حكومة تصريف الأعمال على بقاء القوات الروسية؟
منذ بدأت قوات الأسد والميليشيات الإيرانية بالانهيار أمام تقدم قوات الإدارة العسكرية، أرسل قائدها أحمد الشرع رسالة إلى الروس عبر بيان نشرته الإدارة على معرفاتها، دعاهم فيها للابتعاد عن دعم الأسد، معربا عن أمله في أن تساهم موسكو بمستقبل أفضل لسوريا.
ولم تعلق حينها روسيا على ذلك، لكن لافروف أكد في تصريحاته للصحفيين أمس، أن بلاده تريد المساهمة في الجهود الرامية لتحسين الوضع في سوريا، وأنهم على تواصل مستمر مع حكومة تصريف الأعمال، ولن يغادروا الشرق الأوسط.
وذكر لافروف أن اتصالاته مع تركيا ودول الخليج ونتائج الاجتماعات الأخيرة حول التسوية السورية تظهر أن الجميع ينطلقون من أن هذه العملية يجب أن تشارك بها روسيا وإيران إذا كانت هناك رغبة حقيقية في الوصول إلى نتائج مستدامة وملموسة وليس فقط تصفية الحسابات بين المتنافسين على الأراضي السورية، على حد وصفه.
ولفت الدكتور حمزة إلى أنه لا يعرف التفاصيل حول موقف الحكومة، مضيفا: “نسمع بعض التصريحات من هنا وهناك، والسيد أحمد الشرع صرح أنه يريد علاقات جيدة مع روسيا، ولكننا أعطينا لروسيا فرصة لإعادة النظر في سياستها بسوريا، فهل فعلت ذلك؟ هل غيرت من آليات عملها مع سوريا الجديدة؟ هذا سؤال كبير”.
ويرى أنه “إذا كان الروس يشتغلون بنفس عقلية العمل مع سلطة الأسد المخلوع، فمن المؤكد أن الأمور لن تسير بالاتجاه الجيد في مجال العلاقات”.
بدوره رأى بريجع أنه “من المتوقع أن توافق حكومة تصريف الأعمال السورية على استمرار الوجود الروسي في هذه القواعد، نظرًا لما قد توفره من دعم سياسي وعسكري في مرحلة إعادة بناء الدولة”.
واعتبر أن “القيادة السورية قد ترى في هذا التعاون وسيلة لتعزيز الاستقرار ومواجهة التحديات الأمنية المحتملة، ولكن القرار في يد الشعب السوي، لأن من أسقطوا النظام في سوريا هم من يقررون ما إذا كان يجب الاحتفاظ بالعلاقة مع روسيا أو قطعها”.
ولفت إلى أن “هناك دولا تضغط على سوريا لقطع العلاقة مع روسيا، بسبب العقوبات التي فرضت عليها”.
من جانبه أشار حمزة إلى تلك الضغوط، معتبرا أنها مؤشر على أهمية تحقيق توازن في القوى، قائلا: “سمعنا أن الاتحاد الأوروبي طلب من السلطة الجديدة في دمشق أن تحجم النفوذ الروسي في سوريا، لكن تصريحات القيادة الجديدة لا توحي بأنهم يخضعون لهذه الضغوط بشكل مباشر، ونسمع بوجود توجه إيجابي نحو العالم عبر الانفتاح وبناء علاقات متوازنة حسب المصالح المتبادلة، وهذا منطق صحيح”.
وأضاف: “من وجهة نظري فإن وجود روسيا في الشرق الأوسط ضروري ومهم، حتى يكون هناك توازن إستراتيجي، كما كان الحال أيام الاتحاد السوفياتي فوجوده إلى جانب أمريكا كان يلعب دورا في التوازن في الصراعات الدولية، والشرق الأوسط، أما إذا خرج الروس من الشرق الأوسط فإن الغرب سيملأ الفراغ، وسنصبح تحت رحمته كما حصل في دول الخليج العربي لفترة طويلة حيث تقع تحت التأثير الأمريكي والبريطاني، إلا أنهم مؤخرا منذ سنوات قليلة بدأوا يتوجهون نحو الشرق إلى روسيا والصين والهند وبدأوا يطورون علاقاتهم مع دول آسيا وهو ما عمل توازنا في القوى”.
وأشار إلى أن “هذا الملف حساس ومهم وأتمنى أن يدرك المسؤولون في السلطة الجديدة تماما أن التعاون مع روسيا وبناء علاقات طبيعية أمر مهم.. لا أقول أن تكون هناك صداقة عميقة ولكن أن تكون هناك علاقات طبيعية فروسيا عضو دائم في مجلس الأمن ولا نريد أن نعاديها، ولا أن نعادي أي دولة أخرى”.
وحاول لافروف تبرير سياسات بلاده السابقة في سوريا قائلا إن”بعض الأحداث حصلت بسبب تباطؤ العملية السياسية منذ عشر سنوات، حيث كانت هناك رغبة في عدم تغيير أي شيء”.
وشدّد على استمرار الاتصالات مع حكومة تصريف الأعمال في سوريا، وعلى مواصلة السفارة الروسية في دمشق نشاطها، معربا عن رغبتهم المساهمة في الجهود المبذولة لتحسين الوضع في سوريا، لكنه اعتبر أنه يجب إقامة “حوار شامل بمشاركة كل القوى السياسية والعرقية والدينية في سوريا وكل القوى الخارجية”، من أجل تحقيق ما ذكره.
ويرى الدكتور حمزة أن التصريحات الروسية الأخيرة التي صدرت عن كل من لافروف ونائبه مبعوث الرئيس الروسي إلى الشرق الأوسط ميخائيل بوغدانوف، “إيجابية”، و”حتى ممثل روسيا في مجلس الأمن أدلى بتصريح إيجابي”، و”الكل أشاد بأداء الحكومة الجديدة في دمشق لأنه معقول ومنطقي وإيجابي، وأعرب المسؤولون الروس وأيضا القيادة السورية الجديدة أنها حريصة على العلاقات مع روسيا وتريد علاقات جيدة”.
يذكر أن سلطة الأسد المخلوع منحت لروسيا عدة عقود لاستثمار واستخراج الثروات الباطنية بشكل حصري، كما جعلت خزينة الدولة مدينة لموسكو بثمن الأسلحة التي استخدمتها لقصف المدنيين.