تتمحور الاستراتيجية الإسرائيلية للتعامل مع تطويق حزب الله على ضفتي الحدود اللبنانية السورية ضمن تكتيكات متعددة المستويات لتحقيق الأهداف الرئيسية التي تسعى لفرضها وذلك لتعزيز وفرض وجودها والحد من التهديدات القادمة من الجنوب اللبناني.
حيث تنطلق من الضربات الجوية الاستباقية كخيار عسكري سريع التحقيق، والتي تستهدف مواقع حزب الله والقوافل التي يعتقد بأنها تنقل أسلحة متقدمة للحزب، سواء كانت داخل سوريا أو قرب الحدود اللبنانية، والهدف من هذه العمليات هو منع نقل الأسلحة النوعية المتطورة إلى لبنان، خاصة تلك التي قد تعزز قدرات حزب الله في برنامج الصواريخ الدقيقة.
ولتنفيذ تلك الضربات تتعاون تل أبيب مع حلفاء دوليين وإقليميين، بما في ذلك الولايات المتحدة وروسيا، وذلك لضمان حرية الحركة في كامل الأجواء السورية، كما تُنسق مع الدول الحدودية مثل الأردن لضبط الحدود ومنع عمليات التهريب.
وهنا تبرز أهمية جمع المعلومات الاستخبارية الدقيقة التي تعتمدها تل أبيب من خلال العنصر البشري وطائرات الاستطلاع الاستخبارية في السرب 122 لرصد تحركات الحزب ومعرفة أماكن تخزين سلاحه في سوريا ولبنان، لتكون بمثابة قاعدة بيانات لأهداف ثابتة ومتحركة، لاستهدافها بالأسلحة المناسبة “المسيرات – المقاتلات” كل وفق حجم الهدف المراد تحديده، وفي بعض العمليات يتشارك سلاحا الجو “المسيرات والمقاتلات الحربية والقاذفة” لتنفيذ الضربات الدقيقة لاستهداف أنشطة الحزب.
في الرابع من أكتوبر/تشرين الأول 2024 شنت إسرائيل غارة على معبر المصنع الحدودي، واستهدفته بقنابل ارتجاجية أدت إلى تدميره بشكل شبه كامل، وإحداث حفرة قطرها عدة أمتار، مما اضطر اللاجئون من لبنان للسير على الأقدام لاستكمال رحلة المصاعب للعبور إلى سوريا.
وتنطلق التكتيكات الإسرائيلية في منعها لتدفق السلاح الإيراني القادم من سوريا من مبدأ أساسي يعتمد على إضعاف البنية التحتية اللوجستية التي يستخدمها الحزب في نقل الأسلحة والمقاتلين بين سوريا ولبنان متضمنا الممرات الحدودية الرئيسية والمستحدثة، إضافة إلى استهداف بعض الأنفاق الرابطة بين ضفتي الحدود السورية اللبنانية.
ولتجنب الخسائر العسكرية تجاه الجيش الإسرائيلي في مناطق العمليات الثابتة والمتحركة تعزز تل أبيب قدراتها الدفاعية، والتي تشمل منظومات دفاع جوي متوسطة وبعيدة المدى “مقلاع داوود – القبة الحديدية – ثاد” لصد الصواريخ والمسيرات القادمة من الجبهات الجنوبية مع لبنان وسوريا، والتي يطلقها الحزب ومحور إيران العامل في الجبهتين السورية واللبنانية.
ولتحقيق الردع الأمثل وفق القدرات العسكرية الإسرائيلية للرد على هجمات حزب الله، وذلك لمنع تصاعد النزاع إلى مستوى الحرب الشاملة، تلجأ إسرائيل لتنفيذ عمليات عسكرية داخل الحدود اللبنانية مستعينة بتكتيك الحرب النفسية والإعلامية، ومنها حرب الشائعات كجزء رئيسي من استراتيجيتها لخلق ضغط نفسي على عناصر الحزب وإضعاف معنوياتهم، بما في ذلك توجيه رسائل للنظامين السوري واللبناني حول خطورة دعمهم حزب الله لتأكيد التفوق العسكري والاستخباري لإسرائيل في المنطقة العربية.
هل ثبت نجاح مشروع إيران في وحدة الساحات لمواجهة إسرائيل في لبنان؟
مبدأ وحدة الساحات هي استراتيجية إيرانية تهدف إلى تنسيق جبهات متعددة ضد إسرائيل، من ضمنها لبنان، سوريا، وغزة، وذلك باستخدام حلفائها الإقليميين مثل حزب الله وحماس. تعتمد هذه الاستراتيجية على فكرة أن أي تصعيد في أي ساحة، سواء في غزة أو جنوب لبنان أو الجولان، يمكن أن يدعم ويوحد باقي الجبهات، مما يزيد من الضغط على إسرائيل، ويمنح إيران تأثيرًا أقوى في المنطقة.
في لبنان، يعتبر حزب الله القوة الرئيسية التي تعمل في إطار هذه الاستراتيجية. الحزب يتمتع بقدرات عسكرية متطورة ودعم قوي من إيران، ولكنه يوازن تحركاته بعناية لتجنب حرب شاملة قد تكون مكلفة للبنان. وقد أثبت الحزب فعاليته في الحفاظ على قدرته العسكرية وتطوير أساليبه القتالية رغم الضغوط الإسرائيلية والدولية، لكن تفعيل هذه الاستراتيجية بشكل كامل قد يكون محدودًا بسبب التوازنات السياسية الداخلية والتداعيات المحتملة على لبنان.
حتى الآن، يمكن القول إن استراتيجية “وحدة الساحات” حققت نجاحات جزئية في تقييد خيارات إسرائيل العسكرية وإبقاء الجبهات المختلفة في حالة استعداد. ومع ذلك، لم تؤدِّ هذه الاستراتيجية حتى الآن إلى صراع مفتوح وشامل، كما أن إسرائيل نجحت في احتواء بعض الجبهات وتجنب التصعيد الكبير.
لذا، يمكن القول إن “وحدة الساحات” نجحت إلى حد ما في تحقيق أهداف إيران الاستراتيجية، لكنها لم تصل بعد إلى مرحلة تغيير شامل في قواعد اللعبة مع إسرائيل، وذلك يعود إلى عدة عوامل من بينها حسابات القوى المحلية والدولية وكذلك توازنات الردع القائمة.
ما هو مدى نجاح الرؤية الإسرائيلية المتمثلة بسياسة “فصل الساحات” بالتحييد التدريجي لخصومها بسوريا ولبنان؟
الرؤية الإسرائيلية المتمثلة بسياسة “فصل الساحات” تهدف إلى التعامل مع التهديدات في سوريا ولبنان بشكل منفصل، بهدف تحييد خصومها أو تقليص قدراتهم العسكرية تدريجيًا. تعتمد هذه السياسة على عدة استراتيجيات، منها الضربات الجوية المركزة على مواقع في سوريا وعمليات استخبارية تهدف إلى تقليل القدرة العسكرية لحزب الله وإيران في المنطقة، دون الوصول إلى تصعيد شامل قد يؤدي إلى حرب واسعة على عدة جبهات.
مدى نجاح هذه السياسة:
نجحت إسرائيل إلى حد كبير في تقليص انتشار القوات الإيرانية وحلفائها في سوريا من خلال استهداف البنية التحتية العسكرية وشحنات الأسلحة. أثرت هذه الهجمات على الجهود الإيرانية لترسيخ تواجد عسكري دائم بالقرب من الحدود الإسرائيلية، ما أدى إلى تراجع الانتشار الإيراني، أو على الأقل حصره بعيداً عن الحدود.
وساهمت سياسة فصل الساحات في التحييد التدريجي، وذلك من خلال سياسة الضربات “ما بين الحروب” التي سمحت لإسرائيل بتحقيق تقدم بطيء، ولكنه مؤثر ضد حلفاء إيران، بحيث لم تؤدي هذه العمليات إلى تصعيد حاد، بل ساعدت على تحقيق مكاسب تدريجية، مثل تقليل عدد الأسلحة الاستراتيجية التي تصل إلى حزب الله.
وبالرغم من تكثيف الضربات الإسرائيلية على حزب الله في لبنان لم تحقق النجاح المطلوب في السياسة الإسرائيلية المستخدمة في سوريا، إلا أن تأثيرها في حزب الله في لبنان ظل محدودًا بسبب التعقيدات السياسية اللبنانية وصعوبة شن عمليات واسعة النطاق في لبنان، حيث ما زال الحزب يتمتع بنفوذ سياسي وعسكري كبيرين، ويشكل جزءًا من التوازن الداخلي في البلاد.
لكن بالمقابل ما زال خطر التصعيد الإقليمي قائما، بالرغم من نجاح بعض جوانبه السياسة، هناك مخاطر من أن تؤدي هذه الاستراتيجية إلى تصعيد إقليمي، خاصة إذا ما استمرت الهجمات، وازدادت كثافة الردود. أي تصعيد كبير قد يؤدي إلى مواجهة مباشرة مع إيران أو حزب الله، وهو ما تحاول إسرائيل تجنبه بقدر الإمكان.
ويبقى الهدف التكتيكي الأكبر إسرائيليا المتمثل بتحقيق الردع حيث ساعدت هذه الاستراتيجية الإسرائيلية في فرض نوع من الردع على خصومها، حيث بات من الواضح أن محاولات التمركز العسكري القريبة ستواجه بردود سريعة، مما خلق حسابات أكثر تعقيدًا لإيران وحزب الله في التخطيط لتحركاتهم.
وتبرز هنا التحديات لتحقيق سياسة “فصل الساحات”، صعوبة تحييد حزب الله تماماً في لبنان، حيث يواصل الحزب بناء قدراته الصاروخية المتطورة، بالرغم من سلاسل الغارات الجوية التي تستهدف بنيته التحتية العسكرية حيث ابتكر تكتيكات متعددة لمواجهة الضربات الإسرائيلية، من أبرز تلك التكتيكات سياسة النقل عبر التجزئة مستغلا حالة فوضى النزوح لتمرير شحنات الأسلحة عبر سيارات نقل متوسطة وصغيرة مستخدما المدنيين كدروع بشرية لتجنيبه الضربات الإسرائيلية.
لكن يبقى الجانب الإنساني هو الأخطر في معادلات حروب الاستنزاف التي يقودها الجانبان ومع غياب دور الأمم المتحدة ومشاركتها في عملية تنظيم النزوح السوري واللبناني ما زالت تنطلق من ذات المبادئ، والتي تعبر عنها بانتظام في قلقها إزاء الضربات التي تستهدف المعابر الإنسانية والمرافق المدنية في مناطق النزاع، حيث تؤكد على ضرورة حماية المدنيين وضمان وصول المساعدات الإنسانية دون عوائق.
ويبقى الهاجس الإنساني يرافق الشعوب المقهورة التي تعاني من تراشق القذائف والصواريخ في الجبهات الجنوبية من سوريا ولبنان، فالأمم المتحدة ما زالت تراقب الوضع عن كثب وتدعو جميع الأطراف إلى احترام القوانين الدولية الإنسانية التي تفرض حماية المدنيين والبنية التحتية المدنية، بما في ذلك المعابر التي تُستخدم لتأمين المساعدات أو السماح بعبور المدنيين الفارين من مناطق النزاع، لكنها تفتقد للوسائل الرادعة التي تمارس تلك الانتهاكات بحق المدنيين العزل على ضفتي الحدود سواء الذين يستخدمهم حزب الله كدروع بشرية لتمرير صفقات الأسلحة أم الذين يسقطون إثر الاستهدافات الجوية الإسرائيلية لشحنات أسلحة حزب الله.
ومع ذلك، يظل دور الأمم المتحدة محدودًا في مناطق النزاع، بسبب القيود على تدخلها الميداني مباشرة، ما يدفعها إلى الاعتماد على جهود الدبلوماسية والضغط الدولي للحث على احترام القوانين الإنسانية، وتنظيم عمليات الإغاثة عبر وكالاتها المختلفة مثل مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (UNHCR) وبرنامج الأغذية العالمي (WFP).