باتت قضية الاقتتال الداخلي ضمن القرية الواحدة وبين أبناء العمومة من العشيرة أو العائلة الواحدة في منطقة شمال شرقي سوريا أمراً لافتاً، وظاهرةً تثير الانتباه، لكونها بلغت مستوياتٍ غير مسبوقة.
ويحرّك تلك النزعة بالدرجة الأولى مبدأ “الثأر” والخلافات على اﻷراضي الزراعية ومصادر المياه، ويُغذّيها واقع اجتماعيّ متردّ وفقاً لما يؤكده أبناء المنطقة.
وكان آخر تلك الاشتباكات ما جرى منذ أيام في قرى بلدة “الصور” شمال شرق محافظة دير الزور، بين أفراد من عشيرتيّ “البوفريو” و”الفرج”، وفقاً لموقع “نهر ميديا” المختص بنقل أخبار المنطقة الشرقية، والذي يؤكّد مديره “عبد السلام الحسين” في إفادته لـ”حلب اليوم”، أن الظاهرة في توسع وانتشار متزايد، نتيجةً للظروف العامة غير السليمة.
ماهي اﻷسباب وما هو دور “قسد”؟
لفت “الحسين” إلى أن السبب “الأول والأهم” هو الانفلات الأمني وعدم وجود قوة أمنية رادعة لمثل هي الظاهرة، بالاضافة لانتشار السلاح بكثافة بين أبناء العشائر وعدم وجود جهات قانوية يثق بيها كامل أبناء المنطقة.
أما الشيخ “عامر البشير” وهو شيخ قبيلة “البكارة” في تركيا والمناطق المحررة، فقد أجاب على سؤال من “حلب اليوم” حول القضية بأن الأسباب متعددة، “فمنطقة شرق كما تعلمون تحمل إرثاً عشائرياً ولها فقهها الاجتماعي الخاص، وهو مكوّن صلب متماسك ولا سبيل لتفتيته إلا من خلال زرع الفتن وتعويم الجهل وعدم ردع الجريمة”.
يشير هنا الشيخ “البشير” إلى دور سلبي مارسته قوات “قسد” تسبب في النتيجة بتفشي الجهل، معتبراً أن “الغاية البعيدة من ذلك هي إضعاف هذا المكون (العشائري) الذي يمتاز بمتانة النسيج الاجتماعي”.
أما “الحسين” فقد خالف الشيخ الرأي حيث اعتبر أن “قسد” تحاول الحد من هذا الظاهرة خلال الفترة الأخيرة أكثر من ذي قبل، لكن من الصعوبة بمكان، أن تنهيها بدون مساعدة من أهل المنطقة واتخاذ خطوات جديدة للحد منها.
ورغم أن هناك محاولاتٍ مبذولةً من “قسد”، لكنّها – وفقاً لما أدلى به “الحسين” – لا ترقى للمستوى المطلوب، ويجب أن تكون “جدية وفعالة بشكلٍ أكبر”، فهي “على ما يبدو لا تعطي أهمية أو ثقلاً كبيراً لهذا الموضوع”.
ولم تعثر “حلب اليوم” على إحصاءات حول القضية، لكنّها تأكدت في مراجعة سريعة للأنباء الواردة من شرق الفرات، من أن الاشتباكات المسلّحة بين أبناء العشائر أخذت منحىً تصاعدياً مستمراً منذ عام 2011، كنتيجة غير مباشرة لفراغ السلطة الذي حدث، لكنّ الخط البياني المفترض لهذه الظاهرة قفزَ بشكلٍ كبير عام 2017، بعد طرد تنظيم الدولة من المنطقة، واستيلاء “قسد” عليها.
وأصبح من الطبيعي هناك أن يحوز أيّ شخص على قواذف الـRPG والقنابل اليدوية، فضلاً عن الرشاشات الفتاكة، والتي تُعد “قسد” مسؤولةً عن انتشارها بالمنطقة، حيث باع عناصرها ما استولوا عليه من أسلحة أثناء فترة المعارك مع تنظيم الدولة للأهالي، مما أدى لوجود معدات حربية في أيدي السكان المحليين وبكثرة.
ولكن تشير المعطيات من مناطق سوريا عموماً إلى زيادة في المشاكل الاجتماعية، وارتفاع معدّل الجريمة والانتحار وجنايات السرقة والتعاطي، والضغوط واﻷمراض النفسية والمرتبطة بها، وكلّ ذلك ناجم – وفقاً لخبراء – عن تزايد معدلات الفقر وارتفاع مستوى الضغوط الاجتماعية.
ويؤّكد هنا الشيخ “البشير” أن الواقع المزري وارتفاع نسب الجهل وانتشار المخدرات والجريمة والفقر، هو عامل أساسيّ في زيادة المشاكل والاقتتال، وهو الواقع الذي يرى أن “قسد” هي المسؤول اﻷول عنه، فقد “استأثرت بالسيطرة على الثروات وتركت المنطقة تتخبط في الفقر والحاجة، ولم تمارس دورها بفرض الأمن بل العكس هو الصحيح”.
ما هي الحلول الممكنة؟
يشير سكان محليون إلى أن قوات “اﻷسايش” المحلية تنأى بنفسها عن الدخول في النزاعات القبلية، وهو ما يرجعونه إلى الخوف من الاصطدام بالعشائر، تظراً لكبرها وكثرة تعداد أفرادها، وتوافر السلاح بكثرة في أيدي أبناءها.
ولكنّ “الامر لايحتاج لتعقيد”، وفقاً للشيخ “البشير”، حيث يرى أن “الحل سهل” وهو “إيجاد قوة قضائية وتنفيذية قوية تحاصر الجريمة، من السلطات التي تسيطر على المنطقة”، لافتاً إلى أن “هذا الجانب لم يتم تفعيله، وبكل أسف”، فيما “تتجاهل “قسد” دورها كسلطة امر واقع في تنمية المجتمع”.
ويتابع بالقول إن “قوات سوريا الديمقراطية” هي “المستفيد اﻷول” من هذا الوضع، “فعندما ينشغل المكون الأكبر (العربي) في مستنقع الاقتتال والفتن والجوع، تكون قد تفردت بالسياسة والاقتصاد ومصير المنطقة، ﻷن المجتمع الجاهل لايدرك خطورة المرحلة وهو المطلوب لصالحها”.
أما “الحسين” فيرى أن المطلوب هو تعاون المجتمع العشائري مع سلطة “قسد” من أجل تغيير الواقع، معتبراً أنها ليست مستفيدةً من هذا الصراع مطلقاً، بل على العكس فهو “يؤثر سلباً على سمعة مناطق سيطرتها بما يخصّ الملف الأمني”.
إقرأ أيضاً: هل سيضرب بوتين أوكرانيا بالسلاح النووي؟ وكيف سيردّ الغرب؟
هل هناك فرق في مناطق العشائر الخاضعة لسيطرة النظام؟
تُبنبّؤ المعطيات عن حوادث أقل في مناطق سيطرة قوات النظام والميليشيات اﻹيرانية التي تتقاسم اﻷراضي في شرقي نهر الفرات مع “قسد”.
وتسيطر قوات النظام على مدينة دير الزور وأجزاء من أريافها وصولاً إلى مركز مدينة القامشلي ومربعات أمنية في محافظة “الحسكة”، بينما تسيطر “قسد” على مدينة الرقة وأجزاء من أريافها، وتملؤ الفراغات حول مناطق سيطرة النظام بالحسكة و”القامشلي”.
ويرى الشيخ “البشير” أن معدّل الصراعات القبلية والاشتباكات العشائرية في مناطق سيطرة قوات اﻷسد هو بالفعل أقل منه في باقي المناطق، ويُرجع ذلك إلى “تفعيل السلطات القضائية والتنفيذية”، فضلاً عن أن “الكثافة السكانية أقل منها في باقي المناطق”، حيث حدثت موجات هجرة كبيرة بسبب التسلّط الأمني للنظام وحملاته العسكرية وسوء اﻷوضاع العامة.
من جانبه اعتبر “الحسين” أن الظاهرة أقل حدةً بمناطق سيطرة النظام بسبب “قبضته الأمنية ومصادرته للسلاح من أبناء العشائر غرب الفرات”، ولكنه لفت إلى “ظاهرة الاقتتال الفصائلي” في تلك المناطق، حيث الصراعات المتجدّدة بين المليشيات كل فترة، والتي يعجز النظام عن وضع حدّ لها.
وفي العموم فإن الجميع يتفق على أن الاقتتال ظاهرة سلبية يدفع ثمنها أبناء العشائر وحدهم، من أرواحهم ودمائهم، ويقرّ الجميع أيضاً بأن الحل يحتاج إلى اتفاق وجهد جماعي وموقف حاسم.