ترتبط الصحة النفسية بالحرية ارتباطا وثيقا، حيث يشتركان في التأثير في جودة الحياة بشكل عام، بما في ذلك العلاقات الاجتماعية السليمة، الناجمة عن الحالة النفسية الجيدة، وهي – وفقا للخبراء – تشكل الأساس الذي يعتمد عليه الإنسان في حياته اليومية، إلى جانب الغذاء والخدمات وتأمين مرافق العيش.
ولاحظ العديد من السوريين وجود تغير إيجابي في العلاقات الاجتماعية بين الأهالي في مختلف المناطق، منذ اليوم الأول لسقوط الأسد، حيث أصبح السكان أكثر تسامحا في التعامل بالأماكن العامة، وأيضا حدث ذلك على صعيد العلاقات العائلية بشكل عام.
ويؤكد كثيرون أن التطورات الإيجابية التي حصلت مؤخرا، أثرت على الجانب النفسي والاجتماعي للسوريين، حيث يعتبر الكبت والقمع من الأسباب الأساسية للاضطرابات النفسية والاجتماعية، وفقا للخبراء.
من جانبها قالت الباحثة الاجتماعية، وضحة العثمان، لحلب اليوم، إن “حجم الضغوطات التي نعيش فيها نحن كسوريين غير طبيعية وغير عادية، وتحتاج إلى قدرة نفسية جبارة لمواجهتها”، حيث ينعكس الشعور بالعجز توترا في العلاقات الاجتماعية والعائلية.
ومع غياب كابوس الأسد الذي كان جاثما على صدور السوريين، أصبح لديهم أمل كبير في تغيير الواقع، ما غيّر نظرتهم للحاضر والمستقبل، بحسب ما قالته المدرسة نور محمود.
وأوضحت محمود أن الصعوبات المعيشية لا تزال موجودة، لكن الشعور بالأمل، مع القدرة على التعبير عن المشاعر التي كانت مكبوتة لعقود، منحها طاقة إيجابية، خففت شعورها بالتوتر، وحسنت علاقاتها في العمل والبيت وحتى في المرافق العامة.
وأضافت أنها لمست ذلك بوضوح لدى كل من تعرفهم من الجيران والأقارب والزملاء، حيث قلت مظاهر الاكتئاب والعصبية والتوتر التي كانت سائدة لسنوات خلت.
وأشارت العثمان إلى أن الحالة الاجتماعية والاقتصادية السيئة على حدّ سواء، تؤدي إلى زيادة حالات الاكتئاب والتوتر النفسي، حيث أن المجتمع الذي يضم أشخاصا غير طبيعيين وغير أصحاء نفسيا يعاني انتشار حالات سيئة مثل الجريمة والعنف، كما يسبب غياب التعافي الاجتماعي مشاكل جمة، فهو أمر مهم جدا لبناء العلاقات بين الأشخاص، وبناء مجتمع سليم.
ورغم أن للأمر جذورا أكثر عمقا، حيث يرتبط بحالة الطفل الذي كبر وتربى في بيئة مليئة بالضغوط، إلا أن ظروف المعيشة اليومية المبنية على الغلاء وقلة الفرص والشعور بالعجز، تسبب اضطرابات في العلاقات الأسرية والاجتماعية، بحسب الباحثة السورية.
وقد يكون الاكتئاب الناجم عن الظروف الصعبة عاديا عند الأب والأم، وبالتالي فمن الأكيد أن يكون الابن غير سوي، فيما يتحول الفرد المصاب بالاكتئاب إلى شخص “غير قادر على مواجهة المجتمع بشكل صحيح، أو على أن يكون مؤثرا فيه، بل هو شخص يحتاج إلى رعاية المجتمع”.
ومع سقوط النظام يحتاج المجتمع المزيد من الوقت للتعافي من الآثار النفسية والاجتماعية لعقود الكبت والظلم، ولكن مع قدرة الفرد على بناء حياته، وتحقيق طموحاته، فإن الحرية تمنح الأفراد القدرة على اتخاذ القرارات، والعيش بكرامة واستقلالية، وفقا لما تراه المُدرّسة محمود.
وتُعرف الصحة النفسية بأنها حالة من التوازن النفسي والعاطفي، حيث يكون الفرد قادرًا على مواجهة تحديات الحياة اليومية، وتطوير قدراته الشخصية والاجتماعية بشكل فعال، وتشمل الاستقرار العاطفي، والقدرة على التأقلم مع الضغوط، والحفاظ على علاقات صحية مع الآخرين.
ويسهم دعم الصحة النفسية في زيادة الإنتاجية، وتحقيق الذات، وتعد الحرية، سواء كانت حرية فكرية، أو اجتماعية، أو سياسية؛ أحد الحقوق الأساسية للإنسان، حيث أن تحرر الفرد من القيود يتيح له اتخاذ قراراته بحرية، ويعزز من شعوره بالاستقلالية.
وبحسب خبراء اجتماعيين تتجلى هذه الحرية في قدرة الشخص على التعبير عن نفسه، مما يجعله أكثر قدرة على إدارة مشاعره وأفكاره بشكل صحي، وعلى العكس من ذلك، يؤدي قمع الحرية أو فرض قيود غير مبررة على الأفراد إلى الشعور بالعجز، والاكتئاب، والقلق، وهو ما ينعكس سلبا على المجتمع والدولة.
وتواجه الكثير من المجتمعات تحديات تؤثر سلبًا على الصحة النفسية للأفراد، مثل الضغوط الاقتصادية، والقلق الاجتماعي، والحرمان من الحقوق الأساسية، وهي من العوامل التي تؤدي إلى تفشي مشاكل الصحة النفسية.
وإلى جانب القمع والتعذيب، شكلت بيئة الحرب والقصف والنزوح عاملا سلبيا أثر بشكل كبير على السوريين، وتشير تقديرات أممية إلى أن واحدا من كل 5 أفراد يقيمون في منطقة تشهد نزاعاً مسلحاً يعاني من اضطرابات ما بعد الصدمة، ومن ضعف في مؤشرات الصحة.
وبحسب منظمة الصحة العالمية فإن نحو 44% من المشاركين في مسح أجرته عام 2022 في أوساط المقيمين داخل سوريا، يعانون من اضطراب نفسي حاد، و27% منهم مصابون بالأعراض الكاملة للاضطراب النفسي الحاد المصاحب لاضطراب إجهاد ما بعد الصدمة، كما أن نحو 50% من إجمالي السكان، لا سيما فئة النساء والأطفال، في حاجة إلى خدمات صحية نفسية ودعم نفسي اجتماعي.
ويعني ذلك أن مشاعر الحزن أو الخوف أو الغضب تتملك كثيرا من السكان، وقد يشعرون بالانفصال أو الاغتراب عن الآخرين، وقد تكون لديهم ردود فعل سلبية قوية تجاه أمور اعتيادية، كالضوضاء العالية مثلاً.
وكان انعكاس ذلك واضحا على ارتفاع نسب الانتحار ومحاولات الانتحار في عموم أرجاء البلاد، خلال السنوات التي امتدت منذ عام 2011 حتى اليوم، وهو – وفقا لخبراء – مرتبط بالأوضاع السلبية التي كانت سائدة.
ومع وجود الأمل بانتهاء حالة النزوح واللجوء، وتفكيك المخيمات وتوقف القصف، تنتفي أسباب الضيق النفسي والاجتماعي الذي كان يعانيه معظم السوريين، لتبقى بعض الآثار التي تحتاج وقتا للتعافي، قد لا يقل عن الوقت اللازم لإعادة إعمار المباني والبنى التحتية.