بعد أكثر من خمسين عامًا من حكم نظام الأسد الذي رسّخ هيمنته على السلطة في سوريا، وشهدت البلاد خلالها تهميش كفاءاتها وسرقة مواردها، بالإضافة إلى تدمير منهجي للبنية التحتية وتفكيك نسيجها الاجتماعي والاقتصادي، جاءت نهاية هذا النظام لتفتح فصلًا جديدًا أمام السوريين الذين يسعون لاستعادة وطنهم وإعادة بنائه من الصفر، ولكن السؤال الذي يفرض نفسه، كم من الوقت ستحتاج سوريا لتنهض مجددا، خاصة في ظل الأضرار الجسيمة التي لحقت بكل جوانب الحياة فيها.
على الصعيد الاقتصادي
تحدث الباحث “محمد صديق” لقناة حلب اليوم عن أبرز تفاصيل النهوض الاقتصادي لسوريا قائلاً: وفق أحدث التقديرات، فإن تكاليف إعادة الإعمار في سوريا تُقدَّر بحوالي 500 مليار دولار، وهو مبلغ يتجاوز بكثير قدرة الاقتصاد السوري على تأمينه في ظل ضعف الموارد المحلية وصعوبة تأمين الدعم الخارجي نتيجة العقوبات المفروضة، وإن إزالة هذه العقوبات تُعدّ اليوم شرطاً أساسياً للبدء ببرنامج إعادة الإعمار، إضافة إلى سياسات الانفتاح على العالم الخارجي، ودعوة الدول والشركات للمشاركة في عملية إعادة الإعمار وفق قاعدة “الكل يربح”.
وأضاف صديق قائلا: إن إرسال رسائل طمأنة القطاع الخاص، وترسيخ الأمن في كافة الأراضي السورية، تُعتبر شروطاً حاسمة لتأمين الاستثمارات الكبيرة المطلوبة.
ولفت صديق إلى أن الاقتصاد السوري قبل الثورة كان متنوعاً بين الصناعة والزراعة والتجارة والخدمات، لكنه تعرّض لعقود من النهب والفساد الإداري والمالي، مما جعله هشاً بشكل كبير، فالوضع الحالي يتطلب وضع خطة عمل واضحة وخريطة طريق فعالة تضمن الدخول في سياسات تعافٍ مبكر تمهيداً لإعادة الإعمار بشكل واسع، فالناتج المحلي الإجمالي تقلّص بنسبة 60% مقارنة ببداية عام 2011، وارتفعت معدلات التضخم والبطالة إلى مستويات قياسية، لذلك، يجب تبنّي سياسات عملية وواقعية تركز على تحقيق دولة مستقرة وآمنة ذات نمو اقتصادي مستدام.
وتابع موضحا أن إعادة بناء الاقتصاد تتطلب تنويع الإنتاج وتطويره، وتنويع مصادر الإيرادات والدعم، على سبيل المثال، يمكن بدء خطوات رمزية كإعادة إصدار أوراق نقدية جديدة بعد حذف ثلاثة أصفار، مما يعزز الشعور بالتغيير، ولكن لا يمكن تحقيق تنمية اقتصادية شاملة دون استقرار سياسي كامل وحوكمة رشيدة للإدارة واستغلال أمثل للموارد البشرية والطبيعية.
وأضاف أن دول الجوار لها دور في دعم إعادة بناء الاقتصاد السوري مثل تركيا، العراق، لبنان، والأردن، فهو محوري للغاية في دعم إعادة بناء الاقتصاد، ولهذه الدول مصلحة حقيقية في نمو الاقتصاد السوري، خاصة وأنهم يستضيفون أعداداً كبيرة من اللاجئين السوريين، مشيراً إلى أن التعاون مع الحكومة السورية القادمة من خلال تقديم التسهيلات والدعم سيكون ضرورياً لضمان عودة اللاجئين بأمان وسرعة، مما يُسهم في استقرار المنطقة بشكل عام، ومع تحقيق خطوات جدية في الاستقرار الأمني والانفتاح المدروس على العالم الخارجي، يمكن أن يصبح الاقتصاد السوري خلال فترة تتراوح بين خمس إلى سبع سنوات أحد الاقتصادات الرائدة في المنطقة.
على الصعيد السياسي
اعتبر المحلل السياسي “باسل حفار” أن الوضع في سوريا لا يزال يعيش تبعات مرحلة ما قبل التحرير، وأضاف “نحن الآن في الأيام الأولى من هذه المرحلة، لذلك لا يمكن الحديث عن وضع سياسي بمعناه الحقيقي، سواء على صعيد الداخل أو العلاقات الخارجية، ومع ذلك هناك بوادر إيجابية تشير إلى تشكل تموضع سياسي جديد بالنسبة لسوريا، حيث بدأت العديد من الدول بالتواصل والانفتاح على الوضع السوري، كما نشهد تواصلات سياسية ودبلوماسية واسعة على المستوى الداخلي بالإضافة إلى ذلك، هناك شعور متزايد لدى المواطنين بأنهم باتوا قادرين على التعبير عن آرائهم بحرية أكبر، سواء من خلال الاعتراض، أو المشاركة في مظاهرات، أو تنظيم وقفات احتجاجية”.
أما على الصعيد العام، فإن إعادة تشكيل السلطة وبناء المؤسسات والهيئات أو إعادة هيكلتها لا يزال في مراحله الأولية ورغم ذلك، تظل هذه المؤشرات مبشرة، وتؤكد أن سوريا تسير في الاتجاه الصحيح نحو التقدم بحسب الحفار.
وأشار الحفار إلى وجود تحديات قد تهدد عملية النهوض السياسي في سوريا مثل الانقسامات الداخلية، سواء كانت طائفية أو فصائلية أو مناطقية أو أيديولوجية، فإن أي شكل من أشكال الانقسام الداخلي في سوريا سيكون من أبرز العوامل المؤثرة سلباً على عملية النهوض السياسي.
وتابع “نحن لا نتحدث هنا عن تنافس طبيعي أو ديمقراطي كما هو الحال في الانتخابات أو التوجهات المختلفة، بل عن شروخ وانقسامات حقيقية تعبر عن حالة غير صحية وغير طبيعية، على عكس التنافس الذي يُعدّ ظاهرة صحية ومطلوبة”.
أما التحدي الثاني يتمثل في الوضع الاقتصادي والخدمي المتدهور، فالبلاد تعاني منذ فترة طويلة من انهيار اقتصادي وانهيار في الخدمات الأساسية، مما يجعل تحقيق تفاعل إيجابي من الشعب السوري أمراً صعباً تحت هذه الظروف.
ويتعلق التحدي الثالث بتحقيق الأمن، حيث تحتاج سوريا إلى بسط الأمن بشكل تدريجي لضمان حد أدنى من الطمأنينة لدى المواطنين، وهو شرط أساسي للانتقال لاحقاً إلى معالجة قضايا أخرى مثل النهضة السياسية، والأمن هو هاجس كبير للسوريين اليوم، ومن دون تحقيقه سيكون من الصعب التركيز على القضايا السياسية والتنموية الأخرى.
ويعتقد حفار أن سوريا بحاجة إلى فترة ليست بالقصيرة، وقد تكون متوسطة أو طويلة تمتد ما بين سنة إلى ثلاث أو حتى أربع سنوات، يتم خلالها التركيز على إعادة تأهيل وتشغيل المرافق الحيوية التي تضمن للناس الشعور بالأمان واستقرار حياتهم في ظل بيئة آمنة.
وأضاف حفار يجب العمل على تفعيل مؤسسات الدولة وإتاحة الفرصة لمختلف الأطياف والكيانات والمكونات لتشكيل تصوراتهم وإنشاء مؤسسات تعبر عنهم، سواء كانت أحزاباً أو روابط أو جمعيات أو هيئات، هذه الفترة الانتقالية، ويجب أن تمثل فرصة لبناء أرضية جديدة تُتيح للمواطنين التعبير عن طموحاتهم بشكل منظم.
وفي ذات السياق، يرى حفار أن القضايا القانونية، مثل صياغة الدستور الجديد وتنظيم الانتخابات، تتطلب وقتاً وجهداً لضمان مشاركة فعالة وشاملة للأطراف جميعها، وبما أن سوريا مقدمة على عملية إعادة إعمار شاملة، سواء على مستوى هيكلية الدولة ومؤسساتها، أو على مستوى البنية التحتية، فإن القبول بمرحلة انتقالية طويلة نسبياً قد يكون الخيار الأمثل؛ لأن هذه المرحلة ستُمهد الطريق لتحقيق الاستقرار وإطلاق عملية سياسية نهائية قائمة على أسس متينة تخدم جميع أبناء الوطن.
عبد الواحد غنوم