بعد سنوات طويلة من القمع وتقييد حرية التعبير، يستعيد الإعلام السوري اليوم أنفاسه وسط أجواء من التغيير والتحرر بعد أن هيمنت أجهزة نظام الأسد على الصحافة والإعلام، وكتمت أصوات الصحفيين الأحرار، ومنعت أي انتقاد للسلطة.
ومع ذلك فإن نضال الإعلاميين السوريين لم يتوقف، خاصة مع اندلاع الثورة السورية في عام 2011، حيث برزت أهمية الإعلام الحر كوسيلة لنقل الحقيقة وكشف الانتهاكات، واليوم بعد سقوط سلطة الأسد، تحمل هذه العودة آمالاً جديدة للإعلام الحر ودوره في بناء مستقبل يعبر عن صوت الشعب وطموحاته.
ومن هنا يتساءل الكثير من الإعلاميين والصحفيين عن مسار الإعلام بعد التحرير، وكيف سيكون وما عمله في المستقبل، وللإجابة عن التساؤلات تحدثت قناة حلب اليوم مع “علاء رجب تباب” دكتور في الإعلام والعلاقات العامة والتسويق السياسي، الذي قال: إن مؤسسة الإعلام، وخاصة في الظرف الراهن الذي تمر به سوريا، تُعدّ مؤسسة سيادية بكل ما تحمله الكلمة من معنى، مشيراً إلى أن دور الإعلام محوري في ترميم المجتمع الذي مزّقه نظام الأسد المجرم سعيًا لترسيخ سطوته السياسية، وأن النظام السابق استغل آلة الإعلام لنشر خطاب الكراهية، ورسم صور مشوهة لكل مكون ثقافي في أذهان المكونات الأخرى، مما سهّل عليه التجييش والتجنيد وفق سياسة “فرق تسد”.
وأكد “التباب” على ضرورة الإدراك أن الإعلام لا يقتصر على نقل الواقع، بل هو أداة لصناعته، وأنه لا ينقل الحقيقة فقط، بل يوجه العقول نحو “حقيقة” قد تكون مصطنعة، ومن هذه النقطة، تقع على عاتق الإدارة الجديدة في سوريا مسؤولية إدراك خطورة الإعلام، ووضع الرجل المناسب في المكان المناسب، لأن إدارة عقول الجماهير أمانة ومسؤولية عظيمة، ويجب أن تكون معايير اختيار القائمين على الإعلام أخلاقية، فكرية، وأكاديمية، بعيدًا عن الاستهتار أو الاستسهال.
وشدد على أن الإعلام ليس مجرد شخص يحمل كاميرا أو مكبر صوت، بل إنه فكر، علم، وفن يهدف إلى تسويق المجتمعات وبناء الأفكار، وفي هذه المرحلة المفصلية، يجب استخدام كافة القوالب الإعلامية لتسويق الوعي والمنهج السليم، بدلاً من تعزيز الأيديولوجيات أو خدمة السلطة، والمطلوب هو تمكين المجتمع، على عكس منهج الاستبداد السابق الذي مكن السلطة على حسابه.
وأشار التباب إلى أهمية التركيز في المرحلة الجديدة على تصحيح المصطلحات والمفاهيم السائدة، وتغيير الطريقة التي يفكر بها المجتمع، الإعلام ليس وجهة نظر، وتسويقه بهذا الشكل هو تزييف لمفهومه العميق، الإعلام علم، وفن، ورسالة، ومسؤولية، بل هو عبادة، لذلك، فإن المرتزقة في مجال الإعلام، سواء عن جهل أو عمد، لا يقلون خطورة على مجتمعهم عن مرتزقة السلاح، ولا يقلون خطورة عن طبيب تحول إلى تاجر أعضاء، أو محام أصبح أداة قانونية لتشريع الجرائم، الإعلام مسؤولية عظيمة، ومن واجبنا التعامل معه وفق هذا الإدراك.
بدوره، تحدث “علاء العوض” مدرس في كلية الإعلام بإحدى جامعات الشمال المحرر عن بعض الخطوات الهامة لتشكيل إعلام حقيقي حر قائلاً: بعد عقود طويلة من تكميم الأفواه والقمع، هناك مجموعة من الخطوات التي ينبغي العمل عليها لتأسيس إعلام حقيقي، ما كان موجودًا في سوريا سابقًا لا يمكن اعتباره إعلامًا حقيقيًا، بل كان موجهًا بشكل كامل من قبل حكومة ديكتاتورية تعمل على تطويع الإعلام بما يخدم مصالحها أولًا وأخيرًا حيث غابت المهنية بشكل كبير في هذا السياق.
وأضاف “العوض” أن أول ما يجب القيام به هو صياغة قوانين جديدة تضمن حرية واستقلال الصحافة والإعلام، مع توفير الحماية للصحفيين من الاعتقال أو التضييق أو أي ممارسات قد يتعرضون لها، كذلك، ينبغي إلغاء القوانين القمعية السابقة التي كانت تعاقب أي شخص يمارس حرية التعبير أو تقيد نشر المعلومات، مثل قوانين الجرائم الإلكترونية التي قيدت حرية النشر للإعلاميين وغير الإعلاميين على حد سواء.
وتابع: من الضروري أيضًا دعم الإعلام، ولكن يجب أن يكون دعمًا غير مشروط من قبل الحكومة، بحيث لا يؤثر في استقلالية الإعلام أو توجهاته، وهنا يأتي دور الإعلام كسلطة رابعة، فيجب تسليط الضوء على الأخطاء، وتصحيح الواقع ونقل الحقائق، وليس التماهي مع ما تريده الحكومة.
ولفت “العوض” إلى أن تعزيز ثقافة حرية التعبير يُعد من الأمور المهمة جدًا، بالإضافة إلى التركيز على التدريب والتأهيل الإعلامي، ففي السنوات الأخيرة أصبح في شمال سوريا عدد كبير من الإعلاميين المؤهلين الذين درسوا هذا المجال، أو تلقوا تدريبات عملية فيه حيث أصبح لدينا كوادر جيدة تحتاج إلى تنظيم أفضل للوصول إلى صحافة وإعلام قوي.
كما نوه إلى التركيز على الصحافة الاستقصائية، خاصة أن الواقع الذي خرجنا منه كان مليئًا بالجرائم الكبرى التي تتطلب المحاسبة، لذلك فمن واجب الصحفيين التركيز على توثيق كل جرائم النظام السابقة والعمل على كشفها.
هل الإعلام الجديد بحاجة إلى تشريعات جديدة لتنظيمه؟
أكد “علاء العوض” على أن الإعلام بحاجة إلى تشريعات جديدة لتنظيمه، حيث أن التشريعات السابقة كانت تخدم مصالح الحكومة القائمة ونظام الحكم السائد، لذلك نحن بحاجة إلى تشريعات تضمن سلامة وحماية الصحفي، وتضمن في الوقت نفسه المهنية الصحفية فالحرية ليست أن يقول الإنسان كل ما يريد، خاصة إذا كان ما يقوله يحمل إساءة، إهانة، أو خيانة.
وقال “العوض” في ختام كلامه إنه لا بد من المسؤولية الأخلاقية للصحفيين التي تتمثل في تناول قضايا العدالة وحقوق الإنسان بأعلى درجات الشفافية والمصداقية، مع التركيز على كشف الحقائق وإجراء تحقيقات معمقة حول جميع الجرائم والانتهاكات المرتكبة بحق السوريين،
وأشدد دائمًا على أهمية الشفافية والمصداقية في العمل الإعلامي، حيث تُعد المهنية والصدق من أبرز أسس النجاح في هذا المجال
فعندما نعمل على تحقيق هذه المبادئ، نكون قد وضعنا الأساس لصحافة تحترم المهنة من جهة، وتحترم الحقيقة التي تعد الهدف الأسمى الذي نسعى لتحقيقه.
عبد الواحد غنوم