بينما يهوي المزيد من السكان إلى قاع الفقر، في شمال غربي سوريا، ويضمحل ما بقي من الطبقة المتوسطة، تتزايد أعداد الأثرياء، وأصحاب الدخل المفتوح والأرقام الفلكية، حيث باتت إدلب أوضح نموذج لتلك الحالة في الشمال السوري.
ولا يزال ارتفاع معدلات الفقر مستمراً منذ سنوات، ولكنْ تسارعت وتيرته مؤخراً، وفقاً لبيانات فريق “منسقو استجابة سوريا” التي تتقاطع مع تقديرات اﻷمم المتحدة وبرنامج الغذاء العالمي.
وفي مثل هذا الشهر من العام الماضي 2023، قال الفريق إن نسبة العائلات الفقيرة التي تعتمد على المساعدات الإنسانية فقط ارتفع إلى 85.5 % مع مخاوف من الزيادة بحلول فصل الشتاء، وعدم قدرة المدنيين على تأمين العمل مقارنة بفصل الصيف، كما رصد زيادة في نسبة الاحتياجات الإنسانية في مختلف القطاعات بمقدار 11.7 % عن الشهر السابق، قوبلت أيضاً بنقص الاستجابة الإنسانية بنسبة 9.8 %.
وتشير تقديرات الفريق نفسه لشهر تشرين الثاني من العام الحالس 2024 الحالي، إلى ارتفاع نسبة العائلات الفقيرة التي تعتمد على المساعدات الإنسانية فقط إلى أكثر من 91 %، بينما تراجعت الاستجابة الإنسانية على نحو كبير.
يؤكد مراسل “حلب اليوم” في مدينة إدلب، أنها باتت نموذجاً فريداً لحالة غير مسبوقة من التفاوت الطبقي، حيث تفتتح المطاعم الفاخرة نسبياً بشكل متزايد، كما تكثر مظاهر الترفيه في الحدائق والمقاصف والمتنزهات، فضلاً عن السيارات الحديثة التي تزيد في الشوارع يوماً بعد يوم، وهو الحال نفسه في مدينتي الدانا وسرمدا بالريف الشمالي.
وتشهد المنطقة زيادة مضطردة في مشاهد اﻷطفال الباحثين عن أي شيء للأكل أو البيع في حاويات القمامة، وآخرين يتسولون في الطرق، وعائلات تسكن في بيوت “على العضم”، أو أقبية غير صالحة للسكن فضلاً عن الخيام.
وتظهر حالة الاحتقان الشعبي بسبب التفاوت الطبقي من حين لآخر، حيث يبدي الكثيرون سخطهم مع كل مرة يقع فيها حدث مثير للجدل والنقاش العام، وذلك من جراء تكدّس اﻷموال بيد فئات معينة فقط، وبأرقام مهولة بالنسبة لمنطقة شمال غربي سوريا.
ومع كثرة المطاعم الفخمة والمولات والأحياء السكنية الجديدة والراقية، وأيضا المساجد الكبيرة المزخرفة التي تُبنى بتبرعات التجار، تتضح معالم طبقة غنية جدا، ترتبط نسبة كبيرة من روادها بهيئة تحرير الشام، إن لم يكونوا من قيادييها.
وبجانب تلك المنشآت بمختلف أشكالها، تجد نساء كثيرات وجدن أنفسهن وحيداتٍ أمام مسؤوليات جمة، بعد فقدان أزواجهن أو آبائهن وأقاربهن، مع الحرب القاسية والقصف الكبير وموجات النزوح الضخمة نحو الشمال السوري، ووسط ظروف قاسية حتى على الرجال.
ويُضطر الكثير منهنّ إلى العمل في شتّى المجالات بسبب غياب اهتمام المجتمع والجهات المسؤولة، حيث يقوم بعضهن بنشر البضائع على الرصيف، وبعضهن يعملن في “كشك” صغير لبيع البضائع والألبسة النسائية، لإعالة أولادهن، وبعضهن يعملن مع عمال القطاف في الأراضي الزراعية.
تقاسي “لبنى .س” الفتاة العشرينية في بيت “على العضم” استأجرته على أطراف إدلب، تعاني فيه مع أطفالها برد الشتاء وحرّ الصيف، وتشعر بشكل دائم بالخطر على نفسها وأطفالها، حيث لا يكاد دخلها يكفيها ثمنا للطعام.
اضطرت لبنى للعمل في محل لبيع اﻷلبسة النسائية، لكسب قوت يومها بعرق جبينها من أجل إعالة بنتيها الصغيرتين، بعد وفاة زوجها جراء القصف، ورفضت العيش في المخيم.
وهناك نسبة كبيرة من الأسر التي تُعال من قبل النساء، في شمال غربي البلاد، وفقا لما قالته الباحثة الاجتماعية “وضحة العثمان” لموقع حلب اليوم، مؤكدة أن هذا الواقع مرتبطة بغياب الفرص الاقتصادية سواءً للرجال أو النساء على حد سواء.
وتلفت إلى أن هناك من النساء من تُضطر فعلاً إلى التسوّل، حيث تزداد ظاهرة الشحاذة بالتوسع والانتشار في الشمال المحرر، ورغم أن ذلك أمر غير صحي لكن البعض يجدن أنفسن مدفوعات إليه.
وتتحمّل المنظمات جزءاً من المسؤولية عن هذا الواقع، وفقا للعثمان التي تشير إلى “خطأ فادح” تمّ ارتكابه خلال السنوات الماضية، يتمثّل في تقديم اﻹغاثة فقط بدون خلق فرص عمل، مما جعل البعض يعتاد على التسوّل.
يعتمد 85 % من السكان على المساعدات اﻹنسانية والحوالات الخارجية ممن هاجر من ذويهم، وفقا لتقديرات محلية، فيما يعاني المهجرون ممن فقدوا مصادر الدخل وليس لهم من يدعمهم ماديا أوضاعا مزرية، منذ سنوات.
وتقول “هيئة الزكاة” التابعة لحكومة اﻹنقاذ في إدلب، إنها تسعى لتطبيق نظام الزكاة اﻹسلامي، من أجل تخفيف التفاوت الطبقي الحاصل، حيث تعمل على ذلك بشكل تدريجي، وتؤكد أن عوائدها تُوزّع على الفقراء بالمنطقة، في تجربة غير معهودة وتكاد تكون الوحيدة في الوطن العربي.
ولكن مع توارد أخبار الانشقاقات ضمن صفوف هيئة تحرير الشام، بين الحين والآخر، تطفو على السطح بعض المعلومات حول أحجام ثروات هائلة لبعض قيادييها، ما يثير اﻷسئلة حول جدوى فرض “الزكاة” مع غياب الشفافية.
وبدأت الهيئة عملها منذ سنوات، بتطبيق النظام على “الزروع” حيث تفرض على المزارعين نسبةً معينة من محاصيلهم بما في ذلك الزيتون والزيت، ويجري تحصيلها سنوياً في المعاصر، ويوجد مندوب في كل معصرة يُحصي على المزارع محصوله، ويقتطع نسبة الزكاة منه، سواء أقر بذلك الفلاح أو لا.
كما تُجري الهيئة جولات مستمرة على المحال التجارية، وتقوم بتخمين قيمة البضائع ورأس المال الموجود، لتفرض على صاحبه نسبة الزكاة.
وكانت المنطقة قد شهدت حركة نزوح مكثفة للمدنيين من المناطق القريبة من خطوط التماس، حيث ترك عشرات الآلاف منازلهم في أكثر من عشرين قرية وبلدة على امتداد خط المواجهة، دون أن يتم تقديم أية إيضاحات حول الوضع العسكري بالمنطقة، فيما تستمر حركة العمران والتوسع في الأماكن البعيدة عن القصف.