تعد قلة فرص العمل إحدى الأزمات الرئيسية التي يعاني منها السكان في الشمال السوري، وقد تسببت الحرب المستمرة والتدهور الاقتصادي الناتج عنها في ارتفاع معدلات البطالة في صفوف الشباب بشكل استثنائي، وسط قلة في الموارد.
ومع حصر ملايين السكان في بقعة جغرافية صغيرة، معزولة عن أية منافذ بحرية أو جوية أو برية؛ باستثناء المعابر مع تركيا، بات الركود الاقتصادي سمة رئيسية تعاني منها كافة قطاعات المجتمع.
يعيش الناس في الشمال الغربي تحديات كبيرة تتمثل في تأمين دخل مستقر يلبي احتياجاتهم اليومية في ظل ظروف قاسية بالفعل، مع الأضرار الكبيرة التي لحقت بالبنية التحتية والفوقية على حد سواء، فيما تغيب “الحكومتان” المسؤولتان عن تسيير شؤون المنطقة عن أية جهود حقيقية لتأمين فرص العمل.
ورغم مرور سنوات على إنشاء “منطقة صناعية” في إدلب، وأخرى في ريف حلب، لا تزال آثارهما الاقتصادية أقل من أن تُحدث فرقا في المجتمع، ويعود ذلك لعدة أسباب أبرزها عدم وجود سوق خارجية لتصريف الإنتاج، كما يؤكد الخبير الاقتصادي السوري، فراس شعبو، لحلب اليوم.
وأدت موجات النزوح الداخلي إلى زيادة الضغط على سوق العمل، حيث تضاعفت الكثافة السكانية في ظل تراجع الفرص وزيادة تكاليف المعيشة، ما أسهم في زيادة البطالة وتفاقم الظروف الاقتصادية الصعبة.
وتعرضت المنشآت الصناعية والتجارية والزراعية للدمار، جراء الحملات العسكرية المستمرة لروسيا وقوات الأسد والميليشيات الإيرانية، فضلا عن اقتلاع ملايين السكان من قراهم ومدنهم وأراضيهم.
الحلول
يؤكد خبراء اقتصاديون أن الوضع في إدلب وريف حلب يحتاج إلى خلق بيئة جاذبة للاستثمار المحلي والدولي، من خلال تقديم تسهيلات وحوافز للمستثمرين وتوفير ضمانات للاستقرار النسبي، مما يمكن أن يسهم في إنشاء مشاريع جديدة توفّر فرص عمل وتدعم الاقتصاد المحلي.
كما أنه من الممكن دعم القطاع الزراعي عبر توفير التمويل للمزارعين وتقديم الموارد اللازمة، بالإضافة إلى تحسين طرق التسويق وتطوير الصناعات الغذائية، مما يعزز من استدامة القطاع ويزيد من فرص العمل.
ويقول شعبو إن الشمال السوري يحتاج إلى إعادة بناء البنية التحتية، وتحقيق الاستقرار الأمني، وصولًا إلى تقديم الدعم المالي والتقني للصناعيين، ولكن يبقى تصريف البضائع هو الحاجة الأساسية أمام نهوض الواقع الصناعي.
وبدون معالجة هذه القضية، “سيظل القطاع الصناعي في شمال غربي البلاد يواجه صعوبات كبيرة تعوق نموه واستمراريته”، وفقا للخبير الاقتصادي السوري.
ويشير إلى أن معاناة السكان في الشمال السوري تكمن في عدم القدرة على تصدير المواد المصنعة داخليا إلى تركيا، حيث أن “المصيبة” التي تعاني منها المنطقة هي عدم دخول هذه البضائع إلى السوق التركية، ما “يعيق حركة التجارة و التطور”.
وأوضح أنه لا يمكن للسوق الداخلي أن يجد تصريفا لها بسبب انخفاض قيمة العملة والوضع الاقتصادي الصعب نوعا ما، بشكل أساسي، وبالتالي قد يشكل ذلك ضغطا على الصناعيين والتجار والزراعيين.
ووسط كل المشكلات التي تعصف بالمنطقة، فلا يزال من الممكن أن يعمل بعض المستثمرين على إقامة مشاريع من شأنها تأمين فرص العمل، لكن حالة عدم الاستقرار أدت إلى عزوفهم عن استثمار أموالهم في إدلب أو ريف حلب.
وفضل الكثير منهم افتتاح الشركات والمصانع في مناطق أكثر استقرارًا داخل تركيا، أو في دول أخرى مثل مصر، وإقليم كردستان بالعراق.
ولا يزال معظم سكان إدلب وريف حلب يعتمدون على الزراعة كمصدر دخل رئيسي، إلا أن هذا القطاع يواجه تحديات عديدة، من بينها نقص الموارد والدعم المالي، بالإضافة إلى التقلبات في أسعار المحاصيل وصعوبة تسويقها، مما يجعل فرص العمل في هذا القطاع غير مستقرة وقليلة.
تقدم المنظمات مبادرات دعم للمشاريع الصغيرة والمتوسطة، لفئات معينة من السكان، ولكن تلك المبادرات لا تزال دون المستوى المطلوب حيث إنها لم تحدث فارقا جوهريا.
وتعد تلك المشاريع حجر الأساس في دعم الاقتصاد المحلي وخلق فرص عمل جديدة، ويمكن تعزيز هذا النوع من المشاريع عبر تقديم قروض صغيرة وبرامج تدريبية، وتوجيه الدعم للمشاريع التي تلبي احتياجات المجتمع، مثل الصناعات الغذائية والحرف اليدوية.
ولكن المنظمات تركز جهودها على التعليم والتدريب المهني من أجل تأهيل الشباب بمهارات تلبي احتياجات سوق العمل، فيما تكمن المشكلة في سوق العمل نفسه، حيث تكاد تنعدم الفرص، ما يعني أن تدريب الشباب على مهن متنوعة كالصناعات اليدوية والتكنولوجيا وتطوير الأعمال الصغيرة، لا يحل سوى جزء من المشكلة.
ومع ارتفاع معدلات الفقر يعاني الكثيرون من تدني مستوى المعيشة، ومن عقبات كبيرة تحول دون إقدامهم على العمل في مشاريع خاصة بهم، ما يحول دون قدرتهم على تأمين دخل ثابت، مع ارتفاع احتياجات الأسرة اليومية.
وتدفع ندرة فرص العمل، العديد من الشباب للبحث عنه خارج البلاد، عبر اللجوء، مما أدى إلى فقدان العديد من الكفاءات والمهارات البشرية في المنطقة.
تأثير سلبي على الصحة النفسية والاستقرار الاجتماعي
تعيش العديد من الأسر في الشمال السوري تحت ضغوط نفسية واجتماعية ناجمة عن قلة الفرص المتاحة، حيث ترتفع معدلات التوتر والإحباط بين الشباب، وتزيد حدة المشكلات الاجتماعية نتيجة الإحباط من الظروف الحالية.
وتسبب الواقع الحالي بزيادة حوادث السرقة بشكل لافت خلال السنوات الفائتة، حيث تقع بشكل يومي، دون أن تستطيع السلطات المحلية وضع حد لها.
ويؤكد فريق منسقو استجابة سوريا، في تقرير نشره يوم الثلاثاء الفائت، وجود زيادة ملحوظة في معدلات الانتحار ومحاولات الانتحار بمناطق الشمال السوري، خلال العام الحالي، حيث وقعت 97 حادثة متعلقة بذلك حتى اليوم.
ووصلت معدلات البطالة بين السكان المدنيين إلى أكثر من 90 في المائة، بشكل وسطي ( مع اعتبار أن عمال المياومة ضمن الفئات المذكورة)، وهي في أوساط النازحين أعلى منها في أوساط السكان المحليين.
وبحسب التقرير فقد جاء الوضع الاقتصادي المتردي، في رأس قائمة أسباب تفاقم الظاهرة، تليها المشاكل الاجتماعية والعائلية، والتي ترتبط بالصعوبات المعيشية إلى حد كبير.