لم يقتصر تأثير الحملات العسكرية لقوات الأسد ضد السوريين، وتدخل إيران عبر ميليشياتها؛ على تدمير البنية التحتية والمباني والتهجير، بل طال ذلك مجتمعات ومدنا بأكملها، تم تغيير تركيبتها السكانية الممتدة لقرون خلت؛ وتعتبر حمص من أبرز الأمثلة على ذلك.
“الدمار السكاني في سوريا: مدينة حمص نموذجًا”.. هكذا كان عنوان الدراسة التي أعدها مركز “حرمون للدراسات المعاصرة”، حيث أكدت انخفاض عدد سكان المدينة من نحو 865 ألف نسمة سنة 2010، إلى نحو 533 ألف نسمة، سنة 2014، ثم إلى نحو 428 آلاف نسمة في 2024، ما يعني أن دمارًا سكانيًّا هائلًا قد أصاب المدينة التي فقدت نصف سكانها تقريبًا.
وقالت الباحثة السورية ماسة الموصلي، معدة الدراسة، لحلب اليوم، في إجابتها على سؤال حول ما إذا كان هناك تغيير ديموغرافي لصالح إيران في حمص، إنها تدخلت هناك بصفة طائفية، ولكن “حتى اليوم لا يمكننا الجزم بحدوث تغيير ديموغرافي لصالح إيران داخل مدينة حمص” مع أنه قد يحصل مستقبلا.
وتشير الدراسة إلى أن أحياء (بابا عمرو، الخالدية، الوعر، الحميدية، القصور..) وغيرها، شهدت حالة الحرب وتهجير السكان على مدى سنوات كان آخرها تهجير سكان الوعر على دفعات عام 2017، بعد حصاره وقصفه بدءًا من منتصف عام 2013، ولذلك وقع الاختيار على المدينة لتكون نموذجًا لهذه الدراسة، ولكونها مثالًا على ما جرى في عدد من المدن والبلدات السورية خلال سنوات الحرب التي مر عليها 13 عامًا حتى الآن.
إلى أي مدى تغيرت التركيبة السكانية؟
تبين الدراسة حصول تغير في التوزع السكاني الطائفي، فبينما كانت نسبة السكان السنّة في المدينة عام 2010 بحدود 65.5%، لا يتجاوز عددهم اليوم 51% من السكان الباقين في المدينة، وكذلك انخفضت نسبة المسيحيين من 12% إلى 8%، وذلك مقابل ارتفاع نسبة العلويين، من 20% إلى 34%.
كما ارتفعت نسبة الشيعة وبقية الطوائف في المدينة، من 2.5% إلى 6%، و أوضحت الدراسة أن هذا الانخفاض في نسبة الوجود السني والمسيحي ناتج من التهجير القسري للسكان من بيوتهم وأحيائهم، ومن الأعداد الكبيرة من القتلى ضحايا قصف الأحياء، والمعتقلين والمخفيين خلال فترة الحرب، واتضح أن عملية التهجير القسري لم تتوقف بعد انتهاء العمليات العسكرية وسيطرة قوات الأسد على المدينة، بل إنها تحولت إلى كارثة مستمرة إلى اليوم، وتحولت إلى هجرة اقتصادية بحثًا عن ظروف حياتية أفضل، ولا سيما لشريحة الشباب من الجنسين في المدينة.
وحول ما إذا كان ذلك يعني مخططا إيرانيا للتغيير، قالت الموصلي، إن طهران تدخلت منذ بداية الاحتجاجات على أساس طائفي، ومن ثم عند التحول إلى حالة الحرب في المدينة عام 2011 نظمت أتباع طائفتها من سكان المدينة للقتال إلى جانب السلطة، واستقدمت مقاتلين من دول أخرى كالعراق وأفغانستان ولبنان وهذا ثابت في الكثير من التقارير والدراسات حول مجريات الحرب في سورية عمومًا وفي حمص خصوصّا.
وتؤكد الباحثة السورية أنه قد حصل إسكان وإحلال لسكان جدد أجانب في المدينة، سواء من الإيرانيين أو التابعين لاستراتيجية إيران بعد تهجير السكان، رغم أن “هذا من الصعب إثباته حاليّا بشكل رسمي كونه يحتاج إحصائيات دقيقة وهو متعذر في الوقت الحالي.. ولكن ما اتضح خلال العمل على دراسة الدمار السكاني أن هنالك جماعات من المليشيات وكذلك من الخبراء الإيرانيين يسكنون في المدينة ويقومون بشراء أراض وعقارات في مناطق معينة”.
وتهدف عمليات الشراء تلك إما لبناء مشاريع سكنية عليها، “حيث ذُكر لمعدي الدراسة في المقابلات التي أجريت مع سكان في مدينة حمص أن عمليات الشراء تتم في أحياء مساكن الادخار ( جنوب المدينة) وفي حي البياضة ودير بعلبة والعباسية وفي الجزيرة التاسعة في الوعر”، أو للسكن فيها.
ويجري ذلك عبر سماسرة ومكاتب عقارية يعملون لصالح الإيرانيين، فيما بدأت الدعوات بين الأهالي لعدم تأجيرهم المنازل، حيث اتضح لسكان حمص بعد استهداف إسرائيل لمبنى في حي الحمراء في وسط المدينة أن خبراء إيرانيين و من حزب الله كانوا يسكنون احد طوابقه، ما يعني أن التواجد الإيراني في المدينة أصبح خطرا عليهم، وفقا للموصلي.
كما تؤكد الباحثة السورية أن الإيرانيين مارسوا خلال سنوات الحرب في المدينة، وما زالوا، أسلوب القليل من الدعم المادي للفقراء والمحتاجين ( بما يسد حاجتهم اليومية ) وصولاً إلى أن يصبحوا تابعين ومواليين لهم وتشييعهم.
هل يصل التغيير السكاني لدرجة التغيير الديموغرافي؟
رغم كل هذه “المعطيات الظاهرة والواضحة”، ترى الموصلي أنه لا يمكننا الجزم بأن تغييرًا ديموغرافيّا قد حصل في المدينة لصالح إيران، وما يمكننا الحديث عنه الآن وتأكيده هو “الدمار السكاني الحاصل”.
ولكن تلك المعطيات والظواهر على أرض الواقع هي مؤشر خطير على أن عملية تغيير ديموغرافي كامل لصالح إيران وأتباعها “سوف تحدث فيما لو لم يتم تدارك الأمر”.
ما هي المناطق الأكثر تضررا؟
لقد دفعت الأحياء الثائرة على سلطة الأسد ثمنا كبيرا لمطالبتها بالحرية، فيما تم حشد “شبيحة” من أماكن أخرى ذات حاضنة شعبية معينة، بالاعتماد على الشحن الطائفي.
وبحسب الموصلي فقد كانت المناطق والأحياء الأكثر تضرراً هي أحياء حمص القديمة والخالدية والقصور وجورة الشياح وبابا عمرو، كما تضرر غيرها بشكل جزئي، وجميعها أحياء كان تسكنها الطائفة السنية وقد تهجر سكانها ولم يعد إليها إلا نسب قليلة.
ويتراوح عدد السكان في تلك الأحياء اليوم بين 2% إلى 20% مقابل عام 2010، فهي ما زلت مهدمة ولا توجد فيها أية خدمات.
أما الأحياء الموالية أو التي كانت خلال فترة الحرب تحت سيطرة قوات الأسد فبعضها انتعش تجاريّا واقتصاديا وارتفعت الكثافة السكانية فيها خلال تلك الفترة ونشأت فيها أسواق جديدة، والقليل منها ما تضرر نتيجة الاشتباكات التي كانت تحصل بين الأطراف المتحاربة.
ماذا عن ريف حمص؟
لم يقتصر التدمير العمراني والاجتماعي على المدينة، حيث تشير المعطيات إلى خسائر فادحة لحقت أيضا بالريف الذي طاله القصف والحصار والتهجير، خصوصا الشمالي والغربي.
وقد تمّ تخصيص الدراسة للمدينة فقط، حيث أن محافظة حمص هي أكبر محافظة سورية وتضم الكثير من البلدات والقرى التي تضررت وتدمرت عمرانيا وسكانيا بشكل كبير خلال الحرب إن لم نقل جميعها، وفقا للموصلي.
وذكرت منطقة القصير مثالا على التغيير الديموغرافي الحاصل في الريف، حيث سيطر عليها حزب الله اللبناني والإيرانيون، وكذلك حسياء التي تم إسكان مهجري الفوعة وكفريا فيها بعد تهجير سكانها.
كما أشارت إلى تغيير ديموغرافي ثابت في دراسات وكتب صدرت سابقًا لباحثين سوريين تناولت في جزء منها التغيير الديموغرافي في ريف حمص، كالكتاب الذي صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات للدكتور سامر بكور بعنوان التغريبة السورية.
يذكر أن البيانات الأممية تشير إلى تهجير ملايين السوريين، داخليا وخارجيا، مع استيطان الميليشيات الإيرانية وعوائلهم في شتى أنحاء البلاد، كحلب ودير الزور ودمشق وغيرها، ما يعني أن هناك تغييرا حقيقيا حدث في البلاد، و قد يتوسع مستقبلا ما لم يحدث حل حقيقي للوضع السوري.