عمر حاج حسين
منذ أكثر من 10 سنوات يسعى رأس سلطة الأسد “بشار” على إظهار انطباع للعالم أجمع بأن العاصمة السورية “دمشق” هي مدينة “آمنة” وتعيش هدوءاً دون سواها عن المحافظات السورية كـ”حلب وحمص ودرعا وإدلب وحماة” التي وصفها على مدار عقد من عمر الثورة السورية بـ”الساخنة” والتي لم تغب عنها مشاهد القصف والدمار بفعل طائرات الأسد ومدافعه ورصاص جنوده ومليشيات حلفائه الإيرانيين والروس.
وعملياً لو نظرنا إلى دمشق من بعيد ستؤكد أن هذه المدينة غابت عنها ملامح الحرب العسكرية، ولكن إذا أردنا أن نغطس عميقاً في تفاصيل حياة الأسرة والمجتمع بأكمله فـ ستتكشف إليك الكثير من الحقائق المرعبة، التي باتت مؤخراً تطفو على السطح، بعد أن سئمت سلطة الأسد من حجب ما يدور في فُلك الحياة المعيشية لكل عائلة.
ولأن العائلة السورية هي جزء من المجتمعات البشرية، التي تُقسم عادةً إلى ثلاث طبقات على المستوى الاقتصادي وهي “العليا والوسطى والدنيا”، لكن المجتمع السوري بات يفتقد اليوم للطبقة “الوسطى” التي كانت حاضرة بقوّة خلال أكثر من ثلاثة عقود قبيل اندلاع الثورة السورية، التي سحقها الأسد الأب ونجله “بشار” خلال سنوات حكمهم، لتنحصر هذه العوائل إلى طبقة “الدنيا” أو الذين باتوا يعرفون بـ “الفقراء”، بعد أن تفرّدت فئة رجال أعمال الأسد والأمن والجيش، بالطبقة “العليا” أو ما يعرفون بـ “الأغنياء” الذين نموا ثرواتهم خلال العقد الأخير من عمر الثورة السورية.
على سبيل العيش
يصف أكثر من 30 عائلة استطلعت “حلب اليوم” آراءهم في دمشق بأن مستوى دخلهم الشهري “متدني” وأنه لا يتجاوز في احسن أحواله 200 ألف ليرة (ما يعادل 15 دولاراً أمريكياً)، وأن حجم إنفاقهم يفوق دخلهم بأكثر من 10 أضعاف وأنه قد يَصل إلى 2 مليون ليرة سورية (ما يعادل قرابة 150 دولاراً أمريكياً).
وتُجمع تلك العوائل التي تحدثت مع “حلب اليوم” أن اعتمادهم في مصدر الدخل يتركز على مصدرين وهما: “حوالات خارجية من أبنائهم أو أقاربهم أو الأصدقاء”، بالإضافة لـ “المساعدات العينية والنقدية المقدمة من المنظمات الإغاثية”.
تروي سيّدة تدعى “أم محمد” (53 عاماً) لـ “حلب اليوم” أن العوائل في دمشق وتحديداً في مدينة “داريا” معظمهم من الفقراء، مؤكدةً أن حالتها المعيشية لا تختلف أبداً عن باقي جيرانها، وأن الدخل الشهري المتدني لهم حرمهم كسوريين من العديد من المواد الغذائية أبرزها “البيض والدجاج واللحوم الحمراء”.
وأمّا بالنسبة إلى المواد الأساسية تشير “أم محمد” التي لديها (3 فتيات)، بأنهم لم يتمكنوا من تركيب مدفأة هذا الشتاء، بسبب عدم قدرتها على تأمين مادة المازوت، على الرغم من أن زوجها يحصل على مرتب شهري يُقدر بـ186 ألف ليرة سورية من شركة الكهرباء.
على سبيل التعليم
يعلم السوريون يقيناً أن تكاليف التعليم في الجامعات السورية وخاصّة في مناطق سلطة الأسد تختلف من اختصاص إلى آخر ومن مسافة إلى أخرى -والتي تعتمد على عامل بعد وقرب مكان سكن الطالب عن الجامعة- إذ وصلت المصاريف في بعض الأفرع الجامعية وخاصّة العلمية إلى مليون ليرة سورية أو ما يزيد عنها في الشهر الواحد، وهو ما وصفته مراسلة “حلب اليوم” في العاصمة دمشق بأنه رقم “مستحيل” ويعجر عنه أكثر مم 90 بالمئة من العائلات التي تعتمد على رواتبها المتدنية التي تساندها حوالات أقربائهم في الخارج.
يقول طالب في السنة الثانية بـ كلية طب الإنسان بدمشق يدعى “زياد.ن” لـ”حلب اليوم” إنه يحتاج يومياً إلى قرابة 10 آلاف ليرة سورية، إذ يضطر -وفق قوله- أن يذهب صباحاً إلى الجامعة والعودة إلى جديدة عرطوز مساءً، الأمر الذي يُشكل عبئاً على عائلته.
وأضاف أنه في كثير من الأوقات يحتاج إلى شراء عدد من “أمبولات وعدد من إبر التخدير” والتي يبلغ سعر الواحدة منها قرابة 4700 ليرة سورية، والتي تستخدم عادةً في الدروس العلمية، لافتاً إلى أنهم في بعض الدروس يحتاجون إلى ثلاثة أو أربع أمبولات مع إبر، بالإضافة إلى المصروف الشخصي من طعام ومحاضرات يومية، وهو ما يُسبب مشكلة كبيرة لحال عائلته وخاصّة والده المتقاعد والعامل في محل لبيع الخضار والفواكة في الحي الذي يقطنه.
ماذا عن الطبقات العليا.. من هم؟
الأوليغارشيين
منذ بدء الثورة السورية، خرجت العديد من رؤوس الأموال الكبيرة من سوريا على خلفية تراجع الوضع الأمني في البلاد، ليقوم رأس سلطة الأسد “بشار” باتخاذ خطوات تحافظ على حكمه وتدعمه اقتصادياً في حربه ضد الشعب السوري، ليتبني قانون “المنصب مقابل الولاء”، وفهم من قَبل بهذه القاعدة أن بمقدورهم التحرك في نطاق منصبهم لفعل كل ما يمكن من جمع أموال وتعيين المحسوبين عليهم حتى لو لم يمتلكوا أي مؤهلات للوظيفة، ما داموا يحترمون هذه القاعدة.
كان معظم من تم تعيينهم في الصفوف الأمامية من الفئات الاجتماعية المتوسطة أو الفقيرة، واستطاع أغلبهم الإثراء على حساب المنصب، وقد قامت سلطة الأسد بفرز سيارات وخدمات أكبر لكبار المسؤولين، وكان كبار الضباط في سوريا يعيشون في منازل فخمة نسبياً؛ يحرسها بعض العناصر المجندين لخدمتهم وخدمة أسرهم، بما ساهم في توليد طبقة من الأغنياء الجدد في سوريا، عُرفت بطبقة “الأوليغارشيين”، التي لم تستطع فصل ملكيتها الخاصة عن الملكية العامة، وفقاً للباحث الاقتصادي “سعد بردان”.
يدل مصطلح “الأوليغارشيين” على الأشخاص الذين يمتلكوم الثروة والقوة والسيطرة، وهو ما لخصّه عالم الاجتماع “أفلاطون” حين وصفهم بـ”الأوليغارشية”، وعدّهم الشكل والمثال السيئين للحكم.
ويمكن استخدام المصطلح كذلك للدلالة على الفئات المميزة المتنوعة في المجتمع، كما فسّرهم “أرسطو” الذي رأى أنه “دائماً هناك أقلية تحتكر الثروة والسلطة ومصادر القوة، وتحاول منع الآخرين من الترقي والدخول في طبقة الصفوة، وهذا يؤدي إلى الطغيان والفساد الذي يعجّل بالانهيار”.
والمقصود بالأوليغارشية، في ما هو متعارف اليوم، طبقة رجال الأعمال والسياسيين الأغنياء المقرّبين من السلطة الذين لهم استثمارات تُقدّر قيمتها بعشرات المليارات من الدولارات.
النبّاشون
طوّر جنود الأسد قانون “المنصب مقابل الولاء” وباتوا يعملون عليه أثناء حربهم على الشعب السوري ولكن العبارة التي رسموها على كل موطئ قدم يمرون بها هي “الأسد أن نحرق البلد” ويُلقحونها باسم مجموعاتهم، بهدف إظهار ولائهم لـ”بشار” الذي كان بدوره يمنحهم سلطة وصلاحية أكبر في البلاد.
وعلى إثرها، ظهرت مهنة سرقة السوريين سواء على الحواجز أو داخل القرى والبلدات التي يهجرون سكانها والتي أطلق عليها السوريون “التعفيش”، إذ اعتمد ضباط الأسد على تعفيش البيوت بعد قتل أصحابها، أو تهجيرهم، أو حتّى أثناء وجودهم في البيت، مِمّا أسفر عن ظهور شخصيات عسكرية غنية على حساب أملاك السوريين، فصار العديد من الضباط يوجهون جنودهم إلى البيوت المقصوفة بعد أن يتم تقسيمها لقطاعات بين الضباط، ويهدموا الأسطح، ويسحبوا منها الحديد، كما يسحبوا أسلاك الكهرباء من الجدران، وأنابيب التصريف الصحي من أرضيات البيوت بالإضافة لسرقة كل ما تبقى من أثاث المنزل.
ولعلّ أبرز الشخصيات التي جمعت ثروتها بعد عام 2011 وفقاً لدراسة أعدّها موقع “جسور للدراسات” فهم:
1:حسام قاطرجي، فهو من مواليد مدينة حلب وكانت أبرز أنشطته تتركز في سوريا، برأس مال قُدر بـ 150 مليون ليرة سورية، إذ جاءت ثروته الرئيسية من تجارة النفط والحبوب بين مناطق تنظيم الدولة وسلطة الأسد.
2: فراس السلوم الملقب بـ (الهدبة)، فهو من مواليد مدينة حمص، إذ يُقدر رأس ماله بـ 50 مليون ليرة، الذي جمع أمواله السوريين المهجرين من منازلهم.
3: خضر علي طاهر فهو من مواليد محافظة “طرطوس” إذ قُدرت ثروته بـ 300 مليون، والتي جمعت من خلال إدارة حواجز عسكرية بين المناطق المختلفة والحصول على إتاوات.
- محي الدين المنفوش من مواليد مدينة دمشق، إذ قُدرت ثورته بـ 100 مليون، والذي جمعها من عمليات تجارية بين مناطق المعارضة وسلطة الأسد في دمشق وريفها.
5: عامر خيتي من مواليد ريف دمشق، إذ قُدرت ثروته بـ40 مليونا والتي جمعها من شراء عقارات في مناطق محاصرة.
6: أحمد درويش من مواليد مدينة حماة، ثروته تُقدر بـ 50 مليونا، إذ أتت ثروته من عمليات تهريب وتبادل بضائع بين مناطق المعارضة وسلطة الأسد.
7: وائل عقيل فهو من مواليد من مدينة حلب، ثروته قُدرت بـ 100مليون، إذ جمعت ثروته من الوساطة لذوي المعتقلين وإدخال مواد للمناطق المحاصرة.
8: ياسر عزيز عباس وهو من مواليد مدينة طرطوس، إذ قُدر رأس ماله بـ200 مليون ليرة سورية، وجمع ثروته من عمليات توريد مشتريات عامة لسلطة الأسد
وفي المحصلة، يجمع سوريون في مناطق سلطة الأسد وخاصّة الذين استطلعنا رأيهم في دمشق أن معظم الأغنياء اليوم جمعوا ثرواتهم بعد اندلاع الثورة السورية، والتي وصفوهم بـ”تجار الحروب”، ويتشاطر الجميع ممن تحدثنا إليهم أن الطبقة الوسطى التي كانت محور تقريرنا في سوريا، هي الحزام الاجتماعي الأول للشعوب والتي بانهيارها تتزعزع بنية أي دولة.