يُعرب “أبو محمد” عن استيائه من واقع المنابر في محافظة إدلب ومحيطها، قائلاً إنه لم يشهد فكرة “الخطبة الموحدة” طيلة سنوات حياته الـ60، إلا في السنوات اﻷخيرة التي أعقبت سيطرة حكومة اﻹنقاذ على المنطقة.
ويقول إن المنابر يجب أن تكون حرة ومستقلة، وإنه يشعر باﻷسى ﻷننا “لم نستطع تجاوز حالة حزب البعث وسيطرته المطلقة على كل شيء، بعد كل ما تمّ تقديمه من تضحيات خلال الثورة”.
يؤكد مصدر من اﻷهالي في المدينة أن مواضيع الخطب تتشابه إلى حد كبير في كل جمعة، ما يوحي بأن الخطيب ليس حراً بالقدر الكافي، رغم وجود هامش كبير لديه، كما أن تعميمات تصدر من حين ﻵخر على الخطباء تبليغها للناس، مثل قضية اعتقال المنشقين عن الهيئة واتهامهم بالتخابر مع التحالف الدولي وتكرار رواية “اﻹنقاذ”.
لكن الشيخ قاسم زعتري مدير مديرية شؤون المساجد بحكومة اﻹنقاذ ينفي أن يكون اﻷمر سيطرةً على المنابر أو احتكاراً لها، حيث يقول في تصريح لقناة “حلب اليوم” إنهم يؤدون دور التوجيه لا أكثر.
يروي “أبو محمد” الرجل الستيني وهو من أبناء مدينة إدلب، كيف منعت المديرية أحد المتطوعين من إلقاء الخطب في مسجد على أطراف المدينة، فبعد أن بناه أحد اﻷهالي من اﻷموال التي أرسلها ولده في الخارج إليه، تبرع أحد سكان المنطقة لاعتلاء المنبر، وكان له صدى مقبول بين سكانها، قبل أن تفرض المديرية شخصاً من قبلها، وذلك رغم مطالبة السكان ببقاء الخطيب المتبرع.
يرى زعتري أن حكومة اﻹنقاذ لا تتعدى مسؤولياتها، حيث “تقع على عاتق وزارة الأوقاف مسؤولية ضبط الخطاب الديني وتوجيهه وفق نسق ثوري متزن وعلمي معتدل بعيد عن التنطع والتطرف ووسطاً بين الإفراط والتفريط”.
وأكد أن وزارة الأوقاف “تقوم بتوجيه الخطباء” ولكن “لمواكبة أحداث الساحة والتفاعل معها مثل أحداث الزلزال في العام المنصرم وأحداث غزة وحادثة حرق المصحف”، معتبراً أن “توجيه الخطباء هو على سبيل الحث والترغيب لا على سبيل الإلزام”.
وحول الحكم الشرعي في المسألة يرى الشيخ عبد المعز هلال في إفادته لحلب اليوم أنه ما من مانع إذا كان “توحيد الخطبة لغرض شرعي مباح كمناسبة وطنية “حقيقية” أو عيد إسلامي أو مصلحة معتبرة كفاقة أو مجاعة ألمت بالمسلمين فلا حرج حينها في توحيدها بتوجيه من ولي الأمر”.
أما أن تكون خطبة الجمعة موحدة في جميع المساجد دائما أو غالباً “فهذا ليس من هدي الشريعة الإسلامية بل من شريعة الطغاة الذين يريدون توجيه المجتمع نحو مايخدم عروشهم تثبيتاً وتمديداً.,خصوصاً إن كان التوجيه بتخصيص الخطبة أساسا أو حتى عَرَضاً لمدح القائد ومنجزات القائد …إلخ”.
ويرى هلال أن “الخطورة تزداد عندما يقوم الخطيب بتزييف الوعي وقلب الحقائق ليرقع خزايا ولي الأمر أو من قام مقامه من سياسي أو عسكري.. فالأصل في الخطيب أن يختار من الخطب ما يرى أن الجمهور بحاجته لإصلاح دينهم والفوز بآخرتهم مما هو متعلق بأمور الدنيا والآخرة”.
وليس من مهمة الخطيب – يضيف الشيخ – أن “يقدم مايطلبه الجمهور أو ولي الأمر…!! فهذه خيانة لمقام منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وخيانة للأمة التي استأمنته على دينها وعقولها وأجيالها ليأخذ بأيديهم إلى النجاة يوم القيامة”.
لكن مدير مديرية شؤون المساجد بإدلب يقول إن اﻷوقاف “تقدّم خدمة للخطباء عبر طرح خطبة تسمى (الخطبة المقترحة) يقوم على كتابتها نخبة من الخطباء المتمرسين نضعها بين أيدي طلبة العلم استئناساً بها ولا نلزم بها أحداً فمن شاء خطبها ومن شاء عدل إلى غيرها من مواضيع يراها أولى أو تناسب منطقته”.
وأكد أن من يتابع بعض الخطباء من أصحاب القنوات الموجودة على وسائل التواصل “يجد اختلافاً بين مواضيعهم التي يتناولونها وبين الخطبة المقترحة.. اختلافاً جذرياً”.
يقول أبو أحمد وهو من نازحي الريف الشرقي، إنه خدم لدى أحد اﻷفرع اﻷمنية لقوات اﻷسد، أثناء تأيدته للخدمة اﻹلزامية في تسعينيات القرن الماضي، حيث تم فرزه إلى “أمن الدولة” بعد انتهاء الدورة التي أداها في محافظة دير الزور شرقي البلاد.
ويشرح لحلب اليوم كيف كانت سلطة اﻷسد تفرض رقابة صارمة على الخطباء، حيث كان يرسله رئيس فرعه في كل جمعة إلى أحد المساجد ليكتب تقريره حول الخطبة، وأول ما يتم رصده هو “دعاء الخطيب للسيد الرئيس” ، ثم على المُخبر أن يكتب تقريراً عن محاور الخطبة الرئيسية.
يؤكد أبو أحمد أن اﻷمن كان يشدد قبضته عبر إرسال أكثر من مُخبر إلى المسجد الواحد، ولا أحد منهم يعرف اﻵخر، ثم تجري عملية مطابقة بين التقارير، لذا فإنهم لا يستطيعون التغطية على الخطيب أو التغاضي عن أي “زلة”، كما يجري تغيير انتدابهم بين المساجد بشكل مستمر، إلا أن اﻷمن ورغم كل ذلك لم يكن يفرض أي موضوع على الخطباء، حيث أنهم يعرفون جيداً ما هو المسموح وما هو الممنوع، ويدركون أنهم مراقبون.
وفي الختام فإن الشرعيين والسياسيين على حد سواء، متفقون على أن حرية المنابر لا تقل أهميةً عن حرية الصحافة، والمجتمع بأسره، لا بل قد تكون أهم لما للدين من تأثير في نفوس الناس.