عبد الله عتر
تحتوي ثقافتنا على أحد التوجهات العميقة في فهم التواضع وممارسته على مستوى الفرد والأسرة والمجتمع والسلطة.. وهو أن التواضع خدمة..
يذكر علماء التفسير والتزكية أن “التواضع ترك التمييز في الخدمة”.. وشرح علماء الحديث أن ((رسول الله كان في مهنة أهله)) بأن هذا يعني الخدمة في البيت وأنه من التواضع.. لأن التواضع خدمة.
من لا يستطيع أن يرى نفسه خادماً لله والناس فإن بينه وبين التواضع مسافات قد تساوي تلك السنوات الضوئية التي رصدها تلسكوب جيمس ويب.
التواضع لله يكون بخدمة الله وطاعته.. والتواضع للحقيقة يكون بخدمة الحقيقة والمسير معها.. والتواضع للضعيف يكون بخدمة الضعيف ونصرته.. والتواضع للأصدقاء يكون بخدمتهم.
والتواضع بين الزوجين يكون بأن يخدم أحدهما الآخر ويدعمه.. والتواضع لأهل الحارة يكون بخدمة الحارة ورعاية مصالحها.. والتواضع للعمال يكون بخدمتهم وألا يجحف بحقهم في الراتب ولا يطلب منهم ما لا يطاق.
المتواضع الذي يتولى منصباً عاماً في البلد ستجده يفني وقته في خدمة البلد.. والمتواضع الذي يتولى وظيفة في شركة خاصة سيخدم وظيفته خدمة حقيقية.. وهكذا..
أخدم في ماذا؟ في كل شيء ممكن بلا تمييز.. أخدم من؟ تخدم خلق الله بلا تمييز.. لذلك ذكروا أن التواضع ترك التمييز في الخدمة.
إدماج منظور التواضع في بنية العمل الجماعي وعلاقات السلطة سيعني الكثير.. في المطاعم مثلا يوجد قسم لتغليف الوجبات وقسم ثاني للتواصل وقسم ثالث للتوصيل، إذا قرر موظف التواصل أن يتبنى التواضع في عمله فإنه سينظر لعمله أنه يخدم موظف التوصيل.. لذلك يجب أن يتواصل بلطف ولباقة ويأخذ العنوان بدقة من الزبون المتصل ويفهم بالضبط طلبه كي لا يوقع موظف التوصيل في مشاكل حين يريد أن يوصل الطلب.. وموظف التغليف ينظر لعمله أن يخدم (الشيف) بحيث يتم تغليف الوجبة اللذيذة بغلاف لائق متقن كي تصل الوجبة للزبون بشكل مناسب.. وموظف الرقابة يخدم الجميع كي يوفر معلومات كافية من أجل التأكد من حسن العمل.. وهكذا..
صاحب البقالية يخدم المشتري بتوفير التفاح.. والمشتري يخدم صاحب البقالية بتوفير المال له.. والشرطة (المحترمة) تخدم صاحب البقالية بتوفير الأمان ألا تتعرض للسرقة.. وهكذا سلسلة خدمة لا تنتهي.
الموظف يخدم مديره والمدير يخدم موظفه.. وعلاقات السلطة والمسؤولية هي تنظيم لآلية الخدمات وخريطة سيرها وكيف نتعاون عليها.. لا يوجد ههنا روح الأعلى والأدنى بل توجد روح الخدمة المتقدة بالتواضع.