لم ينفِ “محافظ إدلب” في تصريح له لجريدة تابعة للنظام أمس الثلاثاء، الاستيلاء الواسع على أراضي المدنيين، مبرراً ذلك بـ”استثمارها” وزرعها بالقمح، منكراً وجود مزادات علنية تطرحها الميليشيات المرتبطة بالنظام.
وليس من الجديد إثارة الموضع ولكنّ اللافت كان استخدام “ثائر سلهب” لمصطلح “المتوارين عن الأنظار“، و”الفارين من مناطق سيطرة الدولة”، الذين استحقوا من أجل ذلك الاستيلاء على أراضيهم.
واعتبر “سلهب” أن اﻷصل هو “استثمار” تلك اﻷراضي، وأن من يريد “تحييد أرضه” عن الاستثمار، فعليه أن يقدُم إلى مناطق سيطرة قوات اﻷسد، ويُثبت مليكيّته لها.
هل سيقف اﻷمر عند “الاستثمار”؟
تعيد عبارة “إثبات الملكية” إلى اﻷذهان ما جرى في القابون وداريا والغوطة الشرقية وغيرها بريف دمشق عقب تهجير سكانها، والاستيلاء على ممتلكاتهم بشكل “قانوني”.
وقال قسم كبير من اللاجئين الذين شملهم استطلاع “مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي” إنه من غير المرجح عودتهم من دون منزل أو ممتلكات، بعد أن تمّ نهبها جميعها.
وأكد بعض السكان الذين صودرت ممتلكاتهم أنه من غير المحتمل عودتهم بعد ذلك، حيث تؤكد التقارير أن الممتلكات صودرت نظراً لـ”انتماءات سياسية متصورة، بموجب المرسوم 63 وقانون مكافحة الإرهاب”.
وقامت حكومة النظام بمصادرة ممتلكات السكان تحت شعار “إعادة الإعمار” بموجب “قانون الملكية الجديد” أو “القانون رقم 10″ الصادر في نيسان من عام 2018، والذي يقضي بـ”السماح بإنشاء مناطق تنظيمية في جميع أنحاء سوريا، مخصصة لإعادة الإعمار”.
ولا يحدد القانون معايير لتصنيف المنطقة كمنطقة تنظيمية، أو جدولاً زمنياً لتعيين المناطق، بل بدلاً من ذلك، تُعيَّن المناطق كمناطق تنظيمية وفق مرسوم، وهو ما أكدت منظمة “هيومن رايتس ووتش” على جوره بحق السكان.
وخلال أسبوع من صدور المرسوم القاضي بإعادة إعمار منطقة ما، على البلديات طلب قائمة بأصحاب العقارات من الهيئات العقارية الحكومية العاملة في تلك المنطقة، وعلى الهيئات تقديم القوائم في غضون 45 يوماً من تلقيها طلب المجالس المحلية.
وفي حال لم تظهر إثباتات مالكي المنطقة في القائمة، فسيتم إبلاغهم بذلك، وسيكون لديهم 30 يوماً فقط لتقديم إثبات الملكية، وفي حال عدم قيامهم بذلك، لن يتم تعويضهم وستعود ملكية العقار إلى البلدة أو الناحية أو المدينة الواقع فيها العقار.
ويستحيل على أصحاب العقارات في المناطق التنظيمية تقديم إثباتاتهم في مدة 30 يوماً مع حالة النزوح واللجوء إلى خارج البلاد، والخوف من الاعتقال والموت تحت التعذيب في السجون.
ويُبيح القانون لبعض أقرباء المالك أو وكيله القانوني التقديم عوضاً عنه، لكن على الأقارب إثبات أنه لا يمكنه تقديم الادعاء بنفسه، وعلى الوكلاء المعترف بهم قانوناً أن يكونوا معينين من قبل مالكي العقار والحصول على تصاريح أمنية من أحد الأجهزة الأمنية التابعة للنظام كما على الأقارب إثبات علاقتهم بالمالك، مما يعني أن “المتطلبات الإجرائية في القانون، المقترنة بالسياق السياسي الذي تعمل فيه، يخلق إمكانية كبيرة لإساءة التوظيف والمعاملة التمييزية لنازحي وقاطني مناطق كانت خارج سيطرة النظام”، وفقاً لتقييم منظمة حقوق اﻹنسان، فضلاً عن تدمير العديد من سجلات الأراضي السورية خلال الحرب، مع العلم أن “50 بالمئة فقط من الأراضي كانت مسجلة رسميا حتى قبل 2011”.
من يستطيع من مهجري إدلب “إثبات الملكية”؟
تسيطر على المناطق المهجورة في شمال غربي سوريا، ميليشيات وقوات النظام، وخصوصاً الفرقة الرابعة التي تمنح اﻷراضي لأشخاص مستثمرين فيما يُعرف محلياً بـ”الضمان” ليقوموا بزراعتها لقاء إتاوات تعود للفرقة وقياداتها بشكل مباشر، وذلك منذ تهجير سكان المنطقة في نهاية 2019.
وقد أنكر “سلهب” أنباءً تداولتها مواقع التواصل الاجتماعي منذ يومين حول مزادات علنية سيطرح من خلالها النظام أراضي النازحين للاستثمار الزراعي في مناطق “معرة النعمان وسراقب وأبو الظهور وخان شيخون” بريف إدلب، ولا جديد في ذلك فهذا الحال منذ عامين.
وقال إن القرار يشمل فقط “المتوارين عن اﻷنظار الموجودين في الشمال”، وكل نازح يعود ويسوي وضعه “يمكنه أن يقوم هو باستثمار أرضه”.
وقال أحد المهجّرين من ريف إدلب الشرقي لـ”حلب اليوم” إنه تمكّن العامَ الماضي من العودة إلى منطقته عبر “التهريب” بعد دفع مبلغ فاق الـ1500 دولار أمريكي، لكنّه لم يستطع الاقتراب من أرضه.
وأوضح أن عناصر الميليشيات بالمنطقة أخبروه بأنهم “سيسامحونه” هذه المرّة، على أن لا يعود إليها مرةً أخرى، لتبقى أرضه التي تقرب مساحتها من 20 هكتاراً مزروعاً بأشجار الزيتون المثمرة نهباً لميليشيات اﻷسد.
وذهب الرجل الذي رفض ذكر اسمه ليعيش في مدينة حلب، بلا دخل أو عمل أو مصدرٍ للرزق، فيما كان شاهداً خلال زيارته، على حالة شخص قرّر العودة بشفاعة أحد المقربين من قوات النظام، لكنهم قيدوه على أطراف مدينة “سراقب” شرقي إدلب، وأخذوا كلّ ما بحوزته من أموال كانت في سيارته، فضلاً عن حالات الاغتصاب التي يؤكّد وقوعها بكثرة بعيداً عن وسائل اﻹعلام.
ويوجد في الشمال السوري نحو 4 مليون مهجّر من عموم البلاد، معظمهم قادمون من أرياف إدلب وحماة وحلب، وفقاً لتقديرات المنظمات اﻹنسانية واﻷمم المتحدة، ويعيش ما يقرب من مليون ونصف المليون منهم في مخيمات أو أبنية غير صالحة للسكن، بسبب تهجيرهم من قبل ميليشيات النظام وقواته.
وكشف تقرير لمنظمة العفو الدولية منذ أشهر عن انتهاكات واسعة جرت بحق العائدين إلى مناطق سيطرة النظام، داعيةً إلى عدم عودة أي نازح أو لاجئ قبل إجراء حل سياسي.
وادعى “سلهب” أن المحافظة تقوم حالياً بتجهيز مركز “النافذة الواحدة” لـ”التسوية” في مدينة معرة النعمان من أجل “استلام طلبات العودة ومعالجتها”، على أن يتم افتتاحه رسمياً غداً الأربعاء “لاستقبال المواطنين الراغبين في العودة”.
وكان مزارعو المناطق المذكورة قد اضطروا للنزوح أمام الهجوم العسكري الواسع بدعم روسي إيراني، بعد بذرهم للأراضي منتصف شتاء 2019، وقامت مجموعات النظام وميليشياته بحصادها ونهب عوائدها، فضلاً عن نهب البيوت والمحال بما فيها.
وسيكون من المستحيل على الملايين الذين اختفوا قسراً المطالبة بممتلكات المفقودين، وهؤلاء الأشخاص لم يتمكنوا من تقديم طلبات إثبات الملكية بأنفسهم أو تعيين وكيل معترف به قانوناً، كما أن أقاربهم، في عديد من الحالات، لن يستطيعوا أن يظهروا لتقديم الطلب بأنفسهم، خوفاً من أجهزة أمن النظام.
بالإضافة إلى ذلك، فإن أقارب الأشخاص رهن الاحتجاز قد لا يمتلكون المستندات اللازمة لإثبات وفاة الشخص، وبما أن العقار لا يزال مملوكاً للشخص المفقود، فلن يستطيعوا تقديم طلب لإثبات الملكية.
كما أن شرط التصريح الأمني لوكيل محلي لمالك العقار المسافر أو الذي لا يعرف مكان وجوده سيشكل حاجزاً، ومن المستبعد أن يرغب سكان المناطق التي كانت خارج سيطرة النظام بالتقدم للحصول على تصريح أمني أو التمكن من ذلك.
ماذا جرى في دمشق وحماة؟
وثّقت “هيومن رايتس ووتش” عمليات هدم وإجلاء واسعة النطاق نفذها النظام في دمشق وحماة، بين يوليو/تموز 2012 ونوفمبر/تشرين الثاني 2013، تحت ستار التنظيم العمراني.
وأكد أن عمليات الهدم والإخلاء انتهكت قوانين الحرب، كونها “لم تخدم أي غرض عسكري ضروري وبدا أنها تهدف إلى معاقبة المدنيين، أو تتسبب بأذى غير متناسب لهم”.
كما استخدم النظام المرسوم 66 لسنة 2012 للاستيلاء على الممتلكات وتهجير قاطنيها، حيث يهدف رسمياً إلى “إعادة إعمار مناطق السكن العشوائي والمخالفات العشوائية” في منطقتين بمحافظة دمشق، لكنه “استخدم لاستهداف وطرد سكان المناطق التي كانت خارج سيطرته”.
وتمّ “تدمير الممتلكات، من دون إجراءات قانونية واجبة أو تعويض أو سكن بديل”، كما مكّن المرسوم التشريعي رقم 63 لسنة 2012 وزارة المالية من الاستيلاء على أصول وممتلكات الأشخاص الخاضعين لقانون “مكافحة الإرهاب” لعام 2012 ونقل ملكيتها إلى النظام.
ويقدم قانون “مكافحة الإرهاب” لعام 2012 “تفسيراً فضفاضاً للإرهاب، ويجرِّم بشكل غير عادل شريحة كبيرة من السكان دون منحهم أي حق في إجراءات قانونية أو محاكمة عادلة”.
وفي 2018 أصدر “بشار اﻷسد” قراراً بتعديل “القانون 10” في استمرار للعملية الممنهجة، مما جدّد التصريحات المعبرة عن القلق، من قبل الدول المضيفة للاجئين.
وذكرت وسائل إعلام تركية أن ذلك القانون كان من بين المواضيع التي تمّت مناقشتها بين الاستخبارات التركية وأجهزة أمن نظام اﻷسد، لكونه عائقاً رئيسياً أمام أي عودة مستقبلية محتملة للاجئين.
كما جرت حالات مشابهة لطرد سكان من بيوتهم في “دير الزور” شرقي سوريا، واستيلاء الميليشيات اﻹيرانية على مساكنهم بالقوة، فضلاً عن عمليات ابتزاز واسعة لشراء العقارات والممتلكات.
وفي الجملة؛ فإن بقاء قوات وميليشيات النظام مسيطرين على اﻷراضي والمدن والقرى يحول بينها وبين سكانها، والذين سيبقون مشرّدين في الشمال وفي دول اللجوء، ما لم يتمّ التوصل إلى حل حقيقي ينهي حالة الفوضى بسوريا.