ما تزال تداعيات سقوط حلب في أيدي النظام وحلفائه تؤثّر على الحياة اليومية لسكان حلب لتنعكس بمعطياتها السلبية ليس فقط على المشهد السوري، وإنما على المنطقة برمّتها، وخصوصاً لناحية ملفي “قسد” واللاجئين.
ومنذ إطلاقه لعملية “دبيب النمل” في مطلع 2016، احتاج ذلك الحلف إلى آلاف الغارات الجوية بأطنان من القنابل لكلّ منها، وعشرات الميليشيات، والقوات الخاصة الروسية، وجهود عسكرية كبيرة استمرّت فعلياً لما يقرب من العام وشاركت فيها “قسد” للاستيلاء على المدينة.
مضت أعوام طويلة على سقوط اﻷحياء الشرقية والمجازر والانتهاكات المروّعة، فيما لا يزال معظم سكّانها مشردين خارج مدينتهم المدمّرة، فكيف أصبحت اﻷوضاع اليوم؛ بعد نحو ستة أعوام من الغزو؟!.
ارتفاع معدلات الانتحار
تشير تقديرات “الهيئة العامة للطب الشرعي” إلى احتلال حلب للمركز اﻷول في معدلات الانتحار بمناطق سيطرة النظام، في ظلّ أوضاع صعبة ومأساوية على كافة اﻷصعدة.
وقال الناشط الحلبي “معتز خطاب” منسق حملة “راجعين بلا أسد”، في إفادته لموقع “حلب اليوم” إن أبرز العوامل الدافعة للانتحار هو الوضع المعيشي بالدرجة الأولى حيث لا يخفى على أحد سوء الوضع المعيشي والاقتصادي الكارثي في مناطق سيطرة النظام والذي غالباً ما تكون أعباءه على المدنيين من سكان المدينة فقط، إضافة إلى عدة عوامل منها الوضع الأمني وانتشار ظاهرة الخطف والغياب التام للأمن والأمان بالمدينة في ظل انتشار ميليشيات إيران؛ أي أن السكان في مدينة حلب “يعيشون وضعاً مأساوياً بكل معنى الكلمة”.
من جانبه أكد الصحفي (ن.ع) من أبناء مدينة حلب في إفادته لحلب اليوم أن السبب اﻷساسي في ظاهرة الانتحار يعود إلى اليأس من الاستقرار على جميع الأصعدة، وحتى من تحسن الأوضاع الأمنية والسياسية والعسكرية، فضلاً عن الوضع الاقتصادي الذي جعل السكان فاقدي الأمل من إيفاء ديونهم.
إتاوات الشبيحة ترهق ما تبقى من التجار
تُشكل حواجز الميليشيات المرتبطة بإيران وبقوات الأسد عائقاً كبيراً أمام الصناعيين والتجار الذين عُرفت حلب بهم على مدى عقود، ويبقى هذا الملف طيّ الكتمان، حيث لا يستطيع أحد الاعتراض أو التكلّم أمام خطر الاعتقال أو ربما التصفية.
وقد غادر أكثر من نصفهم المدينةَ حتى يومنا هذا “هرباً من فرض الميليشيات المساندة للنظام للإتاوات”، وفقاً لما يؤكّده “خطاب”، وهو ما انعكس سلباً على الوضع الاقتصادي لمدينة حلب إذ “فقدت صفة العاصمة الاقتصادية لسوريا بعد الظروف التي عصفت بها من تدمير ممنهج وملاحقة التجار والصناعيين” من قبل النظام وميليشياته لدفع الإتاوات “التي قد تصل لنسبة تفوق نصف الأرباح”.
وفيما يلقي النظام باللوم على الثورة السورية، و”المؤامرة الكونية” والدور التركي في الخراب الذي لحق بمعامل المدينة، فقد دعا الناشط الحلبي إلى “تصحيح المعلومة” منوهاً بأن “العالم كلّه يعرف بأن النظام هو من استهدف المنشآت والبنى التحتية ودمرها بطائراته وقذائف مدفعيته كعقوبة لسكان المدينة التي حررت منه ومن عصاباته بنسبة 70 بالمئة”، أما “بعد ست سنوات من سيطرته على المدينة لم يتغير الواقع كثيراً فلا تزال منطقة الشيخ نجار أشهر منطقة صناعية في حلب شبه مدمرة وما يتم ترميمه يكون بشكل فردي من قبل بعض الصناعيين والذين قد يعجزون عن المتابعة إذا استمر الوضع الاقتصادي ونسبة اﻹتاوات كما هي الآن”.
من جانبه لفت الصحفي (ن . ع) إلى أن جزءاً من المعامل بحلب دُمّر بقصف النظام على المدينة الصناعية، وجزءاً آخر تعرّض للتفكيك وتمّ نقله لمدن أو دول أخرى، وما تبقّى منهم فإنه يواجه تحديات كبيرة بسبب فقدان الكهرباء والمازوت واليد العاملة، حيث أنه “لم يبقَ أساساً اقتصادياً في البلد إلا لفئة صغيرة مرتبطة بالنظام والمسؤولين”، أما الباقون من صغار التجار فهم محاصرون، ومعظم التجار الكبار أفلس أو غادر إلى خارج البلد.
صفحات أخرى من الملف اﻷسود للميليشيات بحلب
أشار منسق حملة “راجعين بلا أسد” إلى أن الفترة الأخيرة شهدت العديد من الحوادث التي قامت بها الميليشيات المسلحة بالمدينة حيث أن دورها اليوم يقتصر على النهب والسلب وترويج المخدرات وحماية تجارها، وقد أصبحت مسيطرةً على المدينة بشكل شبه تام، فضلاً عن نشر فكر التشيّع من خلال تجنيد الشبان وإغرائهم بمبالغ مالية، كما أنها “تلعب الدور الرئيسي في زعزعة أمن السكان المحليين”.
وتمارس ميليشيات إيران سطوتها الكاملة على المنطقة، في غياب النظام والقانون والدولة، فيما “حوّلت حلب إلى مرتع للسياح الشيعة، ونشر الطقوس الشيعية في الحسينيات وممارسة أنشطتهم بكل حرية دون وجود أي رادع”، وهو ما وافق عليه الصحفي الحلبي (ن.ع) مؤكداً أن الميليشيات الشيعية لها أيضاً سلطة على بعض المفاصل في المدينة، وأن نفوذها عموماً هو الأكبر، مثل “ميليشيات بري” في مناطق “باب النيرب والمرجة”، و”الميليشيات الفلسطينية” بـ”مخيم النيرب”، وغيرها، فضلاً عن “الترويج العام للتشيع بين مختلف الأطياف”
وتجري نشاطات بشكل مستمر في منطقة “المشهد – الإذاعة” بـ”جامع النقطة” الشيعي خلال “المناسبات”، حيث يتم استقطاب الشباب للحضور والتأثير على أفكارهم ونشر ثقافة التشيّع بينهم.
كيف أصبح حال اﻷحياء الشرقية وسكانها بعد سنوات من الحملة؟
يخشى المهجّرون من حلب العودة إليها تحت سطوة النظام وميليشياته، وكان العديد من المدنيين والعائلات ممن عادوا في حالات فردية بـ”ضمانات” من قوات اﻷمن عن طريق مخاتير تلك اﻷحياء المرتبطين بهم؛ قد تعرّضوا للتنكيل والاعتقال بعد إعطاءهم “اﻷمان”.
وما يزال 95% من سكان شرقيّ حلب مهجّرين؛ فمنهم من انتقل إلى مناطق في الشمال المحرر ومنهم من غادر البلد خارج الحدود وقصد بلدان الجوار كتركيا أو هاجر إلى أوربا – وفقاً لشهادة خطّاب – حيث يلفت إلى أن قسماً منهم يعيش حتى اليوم في بعض المخيمات العشوائية.
أما الصحفي (ن . ع) فيرى أن نسبة العائدين للأحياء الشرقية أكبر من 5% لكنها لا تتجاوز الثلث لافتاً إلى غياب الإحصاءات الدقيقة، فالوضع المعيشي “سيء للغاية”، حيث أن الناس يسكنون بين الركام، وفي البيوت المخربة أو الآيلة للسقوط، والبعض منهم يعتمد في تأمين الطعام والأدوية وأساسيات الحياة على مساعدات الجمعيات أو حوالات أقربائهم المغتربين.
وتشكو حلب – حالُها حالَ باقي مناطق سيطرة النظام – من شحّ الماء والكهرباء والخبز والغاز المنزلي، وسط تراجع الدخل وغياب فرص العمل، فيما دخلت أزمة المحروقات في نفق مظلم لا يبدو أن له نهايةً قريبة.
كيف تتقاسم إيران وروسيا وقسد النفوذ في حلب؟
لم يستطع أي طرف من القوات التي هاجمت حلب في 2016 حسم المعركة بدون اﻷطراف اﻷخرى، حيث تكاتفت كلّ من إيران وميليشياتها مع قوات النظام والقوات الروسية الخاصة مدعومةً بالطيران الحربي الروسي، اﻷمر الذي أفرز تقاسماً للنفوذ بين فرض السيطرة.
يرى “خطاب” أن حلب تقع فعلياً تحت السيطرة الروسية رغم أنها تبدو ظاهرياً خاضعةً لايران بشكل كامل، فبينما تنشط ميليشيات مثل “لواء ابو الفضل العباس” و”لواء القدس” و”النجباء” وغيرها بانتهاكات في أحياء المدنية، فإن روسيا تشرف على القطع والمواقع العسكرية، في حين يتركز وجود “قسد” في المناطق ذات الغالبية الكردية بشكل خاص مثل أحياء “الشيخ مقصود” و”الأشرفية” و”الشقيف” وهي مناطق مغلقة أمام قوات النظام والميليشيات الإيرانية ولا يمكن الدخول لها إلا بعد التنسيق مع “قسد”.
ولفت الصحفي الحلبي إلى أن روسيا حاضرة أيضاً عن طريق الشرطة العسكرية، كما تقوم بالإشراف على بعض الأمور أمنياً وعسكرياً، فيما تمارس إيران نفوذها “عن طريق الدين والطائفة والعقيدة والميليشيات المسلحة التابعة لها”.
أما مناطق “الشيخ مقصود” و”الأشرفية” و”الهلك” و”بستان الباشا” وبعض المناطق القريبة منها والخاضعة لـ”قسد”، فإنها تشهد تنسيقاً كبيراً مع النظام لعبور الأرتال والسيارات والعناصر، وحتى اﻷسلحة والذخائر، “بكل أريحية وبدون أي تفتيش”.
وختاماً فإن الصورة تبدو قاتمةً تماماً أمام أي مهجّر قد يفكّر مدفوعاً بالظروف القاسية في المخيّمات أو دول اللجوء بالعودة لبيته سواءً في حلب أو غيرها، وهو ما تؤكّده التقارير اﻷممية وتقارير المنظمات الدولية الحقوقية واﻹنسانية، اﻷمر الذي يضع عشرات اﻷسئلة حول “خطط إعادة اللاجئين” التي يتم طرحها هذه اﻷيام.