مقال رأي – خليل صباغ
مع دخول العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا أسبوعها الثالث، وتشديد موسكو الطوق على مدن رئيسية في الجنوب والشرق وعزلها عن بعضها البعض، واحتدام القتال حول العاصمة كييف، وإعلان الروس رسميًا بدء عملية السيطرة عليها؛ يدرك الجيش الأوكراني جيداً نقاط ضعفه خاصة عندما يتعلق الأمر بخوض حرب تقليدية ضد قوة عسكرية تحتل المركز الثاني بين أقوى جيوش العالم، ويعلم أن جدار الردع الوحيد هو تضافر جهود الجيش مع الشعب، لذا دعا الرئيس زيلينسكي منذ الأيام الأولى للغزو شعبه للقتال وصد الهجوم، غير أن كل ذلك يثير تساؤلات عن قدرة الجيش الأوكراني على الصمود في ضوء واقع القوى الحالي ، وعن الفرص المتاحة أمام الأوكرانيين للتحول إلى أشكال أخرى من المواجهة كحرب العصابات خصوصاً إذا ما استطاع الروس احتلال العاصمة وغيرها من المدن الرئيسة، وتنصيب حكومة موالية لهم على شاكلة حكومة رمضان قاديروف في الشيشان، وإذا أخذنا بعين الاعتبار العوامل العسكرية والإقليمية والبشرية والثقافية.
من الناحية العسكرية، تواجه اليوم أوكرانيا الغزو الروسي بقطبين من المقاومة، الأول المقاومة المنتشرة على كامل الجغرافيا ويبلغ تعدادها 130 ألف مقاتل إلى جانب نصف مليون شخص (غير مجهز) مستعد للانخراط في حرب العصابات، والثاني القوة الخفية وهي عبارة عن وحدات من العمليات الخاصة لا تنفذ أي عمليات مواجهة مباشرة إنما تقتصر عملياتها على البحث عن ثغرات في قوات العدو ومهاجمتها، هذه القوات تدربت على يد الاستخبارات الغربية، وهو ما سيمنح أوكرانيا قدرة حربية منخفضة الكثافة وعالية المردود. و رأينا ذلك في الأسبوع الأول والثاني من المواجهة، إذ تكبدت القوات الروسية خسائر ضخمة في سلاحها البري والجوي، وساهم في ذلك بالدرجة الأولى نوعية الأسلحة التي زود الغرب بها الأوكرانيين؛ كأنظمة صواريخ جافلين المضادة للدبابات، وصواريخ ستينغر الأمريكية و “لاو” البريطانية” وذخائر هجومية مصممة لتدمير المخابئ المحصنة. صحيح أن مثل هذه الأسلحة قد لا تغير قواعد التوازن العسكري، ولكنها بالتأكيد ستساهم في رفع التكلفة على الروس بشرياً ومادياً ووقتياً.
بالمقابل، تمتلك موسكو أيضاً خبرات سابقة في مواجهة هذا النوع من التكتيكات العسكرية، اكتسبتها ونمّتها في أفغانستان والشيشان وسوريا، وكانت في معظمها تعتمد على قوات أجنبية وشركات أمنية متخصصة بحرب الشوارع، ولعل استقدامها قوات مدربة من الشيشان وسوريا إلى أوكرانيا وسيلة للتقليل من خسائر جيشها، وتجنيبه سيناريو ما عاناه جيش الاتحاد السوفيتي في أفغانستان في ثمانينات القرن الماضي.
من منظور الجغرافية، تمتلك أوكرانيا حدوداً طويلة مع روسيا تقدر بنحو 1576 كم، وتوصف بــ” الخاصرة الروسية” أو “الحديقة الخلفية” لموسكو، وبالتالي فإن روسيا لن تقبل بالتخلي عنها، خاصة أنه لم يعد سرًا أن أوكرانيا في وقتها الحالي غربيّة الهوى، وتنشد الانضمام للاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، وهو ما تعده موسكو -إن حدث- شوكة في ظهرها ويهدد أمنها.
لكن هذه الأهمية للموقع الجغرافي الأوكراني ليست محصورة بروسيا فحسب، بل تشمل أوروبا التي تنظر لأوكرانيا على أنها البوابة الشرقية التي إن اختل ميزان الأمن فيها، ستضرب تبعاته القلب الأوروبي. لذلك نشهد شبه إجماع أوروبي في الوقوف إلى جانب الأوكرانيين، وتقديم كافة أوجه الدعم العسكرية والاستخباراتية والإنسانية والاقتصادية أملاً في استنزاف موسكو ودفعها إلى وقف هذه الحرب حتى لا تمتد ألسنتها خارج أوكرانيا. يساعد الأوروبيين في كل ذلك القرب الجغرافي من أوكرانيا والحدود الغربية الطويلة المفتوحة مع البر الأوروبي.
ثقافياً وبشرياً، على الرغم من فتح الحكومة الأوكرانية مكاتب لتجنيد المقاتلين الأجانب، ووجود كتلة بشرية أوكرانية يمكن أن تساهم في الوقوف في وجه الروس، إلا أنه على ما يبدو، وبعد تعثر روسيا حتى الآن في تحقيق اختراقات مهمة، وتعرضها لخسائر بشرية كبيرة، بدأت تلجأ لاستخدام المرتزقة والشركات الأمنية الخاصة، ليس ذلك فحسب، بل تعمل حالياً على زيادة وتيرة تجنيد الأوكرانيين الموالين لها المتمركزين في الشرق، خصوصاً وأن قسماً كبيراً من هؤلاء مُنحوا الجنسية الروسية، وباتت اللغة الأساسية لهم الروسية، وأصبح نمط حياتهم روسياً بامتياز، وقد دفعت موسكو بهم لتنفيذ عمليات عسكرية ضد الجيش الأوكراني الرافض لاستقلال الإقليمين، بينما في غرب البلاد، فقد أصبح لدى الأوكرانيين هنالك علاقات أوثق مع جيرانهم الأوروبيين، وخاصة بولندا. فضلاً عن تنامي مشاعرهم القومية بصورة أكبر. هذا الانقسام قد يؤدي لاحقاً إلى شكل من أشكال الاقتتال الداخلي والحرب بالوكالة.
على الصعيد الديني، من المستبعد أن تتحول الحرب بين الأوكرانيين الموالين لروسيا (الانفصاليون) من جهة و الأوكرانيين من جهة أخرى إلى حرب دينية، ففي أوكرانيا هناك كنيستان أرثوذكسيتان مختلفتان تدّعي كل واحدة أنها الكنسية الأم للشعب الأوكراني، الأولى: هي فرع من الكنيسة الأرثوذكسية الروسية، والثانية مستقلة بشكل كامل عن الكنيسة الروسية، ولكل كنيسة أتباعها ولكن بشكل عام فإن الجزء الشرقي لأوكرانيا يعتنق رؤية الكنسية الأولى التي ترى أن الشعبين الروسي والأوكراني شعباً واحداً ويجب أن يتوحدا وهي ذات الرؤية لموسكو. مع ذلك فإن الكنيسة التابعة لبطريركية موسكو نأت منذ اندلاع الحرب بنفسها دون الانحياز لأي طرف وبالتالي يبدو هنالك محاولة لتجنب سيناريو “الحرب ذات الخلفيات الدينية” حتى اليوم.
إلى جانب هذه العوامل المتأرجحة في نجاح فكرة “حرب العصابات”؛ ثمة عوامل إيجابية لهذه الفكرة تتمثل أولاً: في عامل المؤسساتية، حيث تتبع الكتائب الأوكرانية إلى مركزية تدير عملياتها، وتقع تحت التسلسل القيادي للجيش الأوكراني، خصوصاً وأن كييف عملت عام 2021 على تقييد الكتائب بسلسلة ضوابط منعا لحدوث فوضى أو اختراقات. وثانياً: في عامل الشرعية الداخلية والخارجية؛ فثمة جزء لا بأس به من أبناء أوكرانيا منخرط بها وداعم لها، ويرى فيها مقاومة وطنية تدافع عن “الأمة” وتدفع عنها المخاطر. وكذلك خارجياً، فهي مقبولة دولياً وإن كانت الدول عادة تخشى من الجماعات شبه عسكرية، إلا أنها في الحالة الأوكرانية دعمتها منذ أحداث دونباس 2014 بشكل سري، حيث أخضعت الاستخبارات الأمريكية والبريطانية الآلاف من الأوكرانيين لتدريبات مكثفة في حرب العصابات، كذلك أبدت بعض الدول تأييدها للدعوات لتوجه الراغبين من الأوروبيين للقتال إلى جانب المقاومة كالدنمارك وبريطانيا.
ربما تنجح فكرة حرب العصابات في أوكرانيا وتستنزف الجيش الروسي وتؤخر تقدمه أو حسمه للمعركة، لكن بالتأكيد سيرفع ذلك من فاتورة الحرب على الأوكرانيين فبوتين يحتاج اليوم إلى نصر دموي كالذي صنعه في حلب السورية وغروزني الشيشانية، لكن وجود مقاومة عنيفة مدفوعة بدعم غربي ستزيد من تكلفة الحرب على الروس، ويمنح الساسة الأوكرانيين الوقت لحشد المزيد من الحلفاء والدعم الدولي.
في النهاية فإن تدمير كل دبابة روسية وقتل كل جندي روسي سيزيد من شجاعة الأوكرانيين للمقاومة. كما سيؤدي قتل كل أوكراني إلى تعميق كراهية الأوكرانيين لروسيا كراهية ستبقى مدفونة في نفوس الأوكرانيين يتوارثها الأجيال حتى وإن ساد بوتين الأراضي الأوكرانية ونحج في تغيير النظام إلا أن الحكومة ستكون معرضة للتمرد الشعبي وقد ينذر هذا الوضع إلى تجدد النزاع مرة أخرى.
المصدر: منتدى الحوار الشبابي