مقال رأي - حسام نجار
تُعدّ العلاقات الدبلوماسية بين الدول إحدى أكثر أدوات السياسة الخارجية تعقيدًا وحساسية، إذ تتجاوز مضمون اللقاءات أو التصريحات الرسمية إلى تفاصيل رمزية دقيقة تحمل دلالات سياسية عميقة.
فالدبلوماسية لا تقوم على الحوار المباشر فحسب، بل تتجلى أيضًا في لغة الإشارات والإيماءات والبروتوكولات التي ترافق اللقاءات الرسمية، والتي غالبًا ما تُستخدم كوسيلة للتواصل غير اللفظي بين الدو ل.
الرمزية في الممارسة الدبلوماسية
تُعتبر التفاصيل البروتوكولية في الاستقبال واللقاءات جزءًا من اللغة الرمزية للعلاقات الدولية، حيث يقرأ الطرف الزائر بدقة ترتيب الجلوس، ومستوى الحفاوة، وطبيعة المرافقة، وحتى لغة الجسد لدى الطرف المضيف. وتُعدّ قدرة القائد أو المبعوث على فهم هذه الرموز والتفاعل معها بطريقة لائقة مؤشرًا على مستوى الوعي السياسي والدبلوماسي لديه، إذ يمكن للردّ اللبق والمدروس أن يعادل في أثره تصريحًا سياسيًا صريحًا، بينما قد يكشف الانفعال أو سوء التصرّف عن محدودية الخبرة الدبلوماسية.
في تحليل زيارة الرئيس أحمد الشرع إلى موسكو
من هذا المنطلق، يمكن النظر إلى زيارة الرئيس أحمد الشرع إلى موسكو بوصفها حدثًا سياسيًا يتجاوز الإطار البروتوكولي التقليدي، إلى مساحة أوسع من التفاعل الرمزي المتبادل بين الدولتين. فكل تفصيل من تفاصيل الزيارة بدءً من الاستقبال، مرورًا بالمسار الذي سلكه الرئيس نحو قاعة اللقاء، وانتهاءً بترتيب الجلوس حمل في طياته دلالات واضحة على طبيعة الرسائل التي أرادت موسكو توجيهها إلى الداخل السوري وإلى الإقليم بأسره.
وفي المقابل، أظهرت طريقة تفاعل الرئيس الشرع قدرة عالية على قراءة هذه الرموز والتعامل معها بذكاء دبلوماسي رفيع، حيث تمكّن من الردّ غير المباشر على تلك الإشارات دون أن يخرق البروتوكول أو يظهر أي توتر في السلوك أو الموقف.
الرمزية في المشهد البروتوكولي
يُعدّ المشهد الذي رافق صعود الرئيس الشرع درجًا طويلًا يقارب الأربعين درجة مثالًا لافتًا على التداخل بين الرمز والموقف. فسواء أكان اختيار هذا المسار مقصودًا أم لا، فقد تعامل الرئيس معه بثقة، محوّلًا هذا التفصيل البسيط إلى رمز سياسي معبّر. وقد علّق على ذلك بلهجة فكاهية لطيفة قائلًا إنّ العقبات التي تواجه سوريا ليست سوى درجات تصعدها بثبات نحو الأعلى، مؤكّدًا بذلك على مرونة الدولة السورية وقدرتها على التكيّف والتجدّد في مواجهة التحديات.
هذا التعليق، رغم بساطته الظاهرية، حمل رسالة سياسية عميقة إلى الطرف الروسي وإلى المراقبين الإقليميين، مفادها أن سوريا تمتلك القدرة على الصمود والمناورة، وأنها ماضية في مسارها رغم العقبات، بروحٍ واقعية وإرادة متجددة.
أبعاد الرسالة السورية
من المؤكد أنّ الرئيس بوتين، ومن خلفه صانع القرار الروسي، تلقى هذه الإشارة بوضوح. فالتفاعل الدبلوماسي في مثل هذه اللقاءات لا يقوم فقط على مضمون المباحثات، بل على التواصل الرمزي غير المباشر الذي يعبّر عن مواقف الدول وتوجهاتها.
وبذلك، يمكن القول إنّ الدبلوماسية السورية الحديثة تسعى إلى تكريس مبدأ الشراكة الندية في العلاقات الدولية، بعيدًا عن منطق التبعية أو الارتهان لأي محور. فهي دولة تُبدي استعدادًا للتعاون من موقع الندّ، وتسعى لأن تكون فاعلًا إيجابيًا ضمن محيطها الإقليمي والدولي.
رغم التحديات الداخلية والخارجية التي تواجهها سوريا، فإنّ سلوكها الدبلوماسي الأخير يعكس رغبة واضحة في الموازنة بين الإمكانيات المتاحة والطموحات الوطنية. وتأتي زيارة موسكو كخطوة ضرورية ضمن هذا المسار، تمثّل عنوانًا لمرحلة جديدة من الانفتاح المدروس، القائم على قاعدة واضحة: ((لا شرقية ولا غربية، بل إرادة محلية)).