شهدت سوريا بين عامي 2001 و2024 تراجعاً حاداً في الغطاء الشجري، ما أدى إلى آثار بيئية كارثية على مستويات عدة، من التنوع الحيوي إلى تدهور التربة وتلوث الهواء، وأشار البرنامج السوري للتغير المناخي (spcc) في منشوره البيئي الأخير على وسائل التواصل الاجتماعي، إلا أن هذا التراجع لم يكن مجرد حدث عرضي، بل هو نتيجة لعوامل مركبة جمعت بين النزاعات المسلحة المستمرة، الإهمال الحكومي، والاستخدام غير المستدام للأشجار.
وأكد المنشور أن الاعتماد المفرط على الأشجار كمصدر رئيسي للوقود والطاقة، خصوصاً في ظل الأزمات الاقتصادية، زاد حدة المشكلة، وفي الوقت نفسه ساهمت ظاهرة التغير المناخي، بما فيها فترات الجفاف الطويلة وارتفاع درجات الحرارة، في تعميق أزمة الغطاء النباتي، حيث تسببت هذه الظروف في تقويض بنية التربة وزيادة التصحر.
إن تدهور الغابات أثر بشكل مباشر على التنوع البيولوجي، حيث تراجعت أعداد الكائنات البرية التي تعتمد على الغابات كمأوى وغذاء، والتصحر الناتج عن تراجع الغابات أدى إلى تدهور جودة التربة والإنتاج الزراعي في المناطق المتضررة، علاوة على ذلك ارتبط نقص الأشجار بارتفاع معدلات تلوث الهواء وتدهور جودة المياه، ما انعكس سلباً على صحة السكان المحليين ونوعية حياتهم.
من جانبه، أوضح د. أمين الحسن مدير الحراج في وزارة الزراعة والإصلاح الزراعي، عدداً من الحقائق العالمية التي تؤكد أهمية الغابات، وأشار إلى أن الغابات تغطي نحو ثلث مساحة العالم، وتمثل شريان حياة يعتمد عليه أكثر من 1.6 مليار إنسان كمصدر للغذاء، الوقود، والمأوى، كما بيّن أن الغابات تختزن كميات هائلة من الكربون، ما يجعلها إحدى أكبر مخازن الكربون الطبيعية بعد المحيطات.
وأكد الحسن أن الغابات السورية، رغم صغر مساحتها النسبية، تؤدي دوراً مهماً في الحفاظ على التوازن البيئي في البلاد، وأشار إلى أن أسباب تراجعها تنقسم إلى عوامل طبيعية وبشرية، فمن جهة أدى التغير المناخي إلى تراجع الأنواع المحلية وظهور أنواع غازية أقل فائدة بيئياً، ومن جهة أخرى، كان للقطع الجائر والرعي غير المنظم دور كبير في تدهور الغطاء النباتي.
وأضاف الحسن : “أن الأسباب الرئيسية لتراجع الغابات، يكمن تقسيم ذلك إلى عاملين الأول طبيعي يتعلق بظاهرة التغيرات المناخية، والتي أثرت على طبيعة نمو وتركيبة الغطاء الحراجي وحلول الأنواع الجفافية محل الأنواع المحلية، وظهور أنواع غازية وأنواع ثانوية، والعامل الثاني يتعلق بالممارسات غير المستدامة للإنسان كالقطع والرعي الجائرين وخاصة خلال فترة نمو البادرات الحراجية؛ مما يقلل من فرص التجدد الطبيعي، كما يشكل كسر الأراضي الحراجية وتحويلها إلى نظم زراعية عاملاً إضافياً يؤدي إلى تراجع الغابات، وتعتبر الحرائق المهدد الأشد خطورة على الغابات؛ إذ يمكن لها أن تقضي على العديد من المساحات الكبيرة خلال ساعات”.
ورغم خطورة الوضع، إن الجهود المبذولة حتى الآن تظل محدودة، مما يجعل الحاجة إلى تدخل فوري أكثر إلحاحاً، وشدد الحسن على أهمية إطلاق حملات وطنية لإعادة التشجير باستخدام أصناف محلية مقاومة للجفاف، كما دعا إلى تعزيز القوانين التي تمنع القطع الجائر للأشجار وزيادة التوعية المجتمعية حول أهمية الحفاظ على البيئة.
وأوضح أن تراجع الغابات يؤدي إلى تغيرات كبيرة في التربة، وبيّن أن التربة تفقد المواد العضوية الموجودة على سطحها؛ بسبب الجرف الميكانيكي لمياه الأمطار، كما أن التعرض الزائد لأشعة الشمس يسرّع من تحلل المادة العضوية داخل التربة، مما يقلل من خصوبتها، وأكد أن هذه التحولات تؤدي إلى تغير نوعية الكائنات الحية في التربة، ما يبطئ من تحلل المواد العضوية، ويقلل من إنتاجية الأرض.
أشار الحسن إلى أن مواجهة هذه الأزمة تتطلب جهوداً جماعية تشمل تحديد المناطق المتضررة، اختيار الأنواع الحراجية المناسبة للزراعة، وضمان رعاية الغراس بعد زراعتها، وأكد أهمية زراعة أنواع مقاومة للجفاف مثل البطم والتين البري والزيتون الأوروبي، مشدداً على ضرورة الحفاظ على التوازن البيئي من خلال استخدام الأنواع المحلية فقط.
وأضاف: “أن الخطوات العاجلة لإعادة التشجير هي تحديد المناطق الحراجية المتدهورة، والتي هي بحاجة إلى أعمال التحريج نتيجة انخفاض نسبة التجدد الطبيعي، تحديد الأنواع الحراجية المحلية المناسبة والمتأقلمة مع الظروف البيئية للموقع من حرارة وأمطار وتربة وغيرها، ويتبع ذلك حشد الإمكانيات الحكومية والمجتمعية الأهلية للمشاركة بأعمال التحريج، ويلي ذلك تأمين الرعاية والسقاية والحماية للغراس المزروعة”، بالإضافة إلى أن إشراك السكان المحليين في مشاريع التحريج أمر حيوي، حيث يمكن أن تساهم برامج حق الانتفاع مثل جمع الحطب اليابس أو زراعة النباتات العطرية في تحقيق توازن بين تلبية احتياجات المجتمع وحماية البيئة.
وأوضح الحسن أن التغيرات المناخية تمثل التحدي الأكبر أمام نجاح مشاريع إعادة التشجير، انحباس الأمطار والتغيرات في دوراتها يهددان بقاء الغراس المزروعة، فضلاً عن التحديات المادية المتعلقة بتأمين صهاريج السقاية وحماية الغابات من الرعي الجائر.
وأكد: “أنه يمكن تحقيق التوازن بين تلبية حاجات السكان وحماية الغابات، حيث تبنت الوزارة رؤية وطنية للحراج تتمثل في تحقيق الاستدامة للثروة الحراجية والاستفادة المثلى من فوائدها المتعددة البيئية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والترفيهية، والمحافظة عليها بما يحقق مصلحة الدولة والمجتمع، ومن أجل تنفيذ ذلك فقد تم وضع أهداف واستراتيجيات وسياسات وبرامج للإدارة المتكاملة للحِراج تنسجم مع التنمية المستدامة بمفهومها الواسع والتي تهدف إلى تحسين الظروف المعيشية والحياتية والثقافية للأجيال الحاضرة، مع المحافظة على ديمومة الثروات الطبيعية كماً ونوعاً للأجيال القادمة”.
مضيفاً: “وفي هذا الإطار نذكر أن دمج السكان المحليين في عجلة التنمية الاقتصادية للغابات يشكل أمراً في غاية الأهمية نعمل على تعظيم استفادة المجتمع المحلي بما يحقق احتياجاته واستدامة الحراج من خلال تعزيز حق الانتفاع المجاني من حراج الدولة تبعاً للحاجة الشخصية مثل الانتفاع من الأحطاب الحراجية اليابسة، والانتفاع بوضع خلايا النحل ضمن حراج الدولة، الانتفاع من بذور وأجزاء النباتات الطبية والعطرية النامية للاستعمال الشخصي وحسب النوع، بما لا يؤثر في تجددها واستدامتها، ورعي المواشي عدا الماعز والإبل”.
وأكمل الحسن، أن العمل على تعزيز تنفيذ ما نص عليه قانون الحراج من استفادة المجتمع المحلي من أعمال تربية وتنمية الغابات للمجتمع المحلي أولوية الاستفادة من الأحطاب الحراجية الناتجة عن أعمال الحماية والإدارة المستدامة لحراج الدولة حيث ينص على أن يستفيد المجتمع المحلي من نسبة 80% كحد أقصى من الأحطاب الحراجية الناتجة عن الأجزاء النباتية للنوع الحراجي في حراج الدولة من الجذور والأغصان التي يقل قطرها عن /7/ سم.
وفيما يتعلق برفع الوعي البيئي لدى السكان المحليين قال الحسن: “نعمل بالتعاون مع الجهات المعنية الأخرى بإعداد وتنفيذ خطة برامج توعية وإرشاد بيئي للسكان المحليين المستهدفين، بهدف تحقيق الأهداف التوعوية بأهمية الحراج وتعزيز السلوك الإيجابي للإنسان تجاهه، خطة تدريب وتطوير تنموية للمجتمعات المحلية على إقامة مشاريع صغيرة مستدامة بيئياً وحراجياً توفر دخلاً داعماً لها، ولا تؤثر سلباً في أي جزء من الأنظمة البيئية للحراج، وآلية تنظيم العمل التطوعي للمجتمعات المحلية ومنظمات المجتمع الأهلي والمنظمات الشعبية في حراج الدولة”.
وفي سؤاله عن كم من الوقت نحتاج لاستعادة الغابات إذا بدأنا اليوم؟ أجاب د.أمين الحسن: “في الواقع إن استعادة النظم البيئية الحراجية لعافيتها وعودتها إلى نظامها الأوجي يتطلب وقتاً طويلاً كي يستعيد النظام البيئي الحراجي مكوناته، ولتعزيز ذلك تعمل الوزارة على وضع خطط التحريج وإنتاج الغراس سنوياً وتعمل على زيادة مساحة الحراج، لذلك من الواجب الحفاظ على ما تبقى من حراجنا والعمل على زيادة مساحة المناطق المتدهورة بأعمال التحريج، وكلنا أمل بالتعاون مع كافة المخلصين أن نعود بحراجنا لما كانت عليه من تألق في الماضي”.
أكد الحسن أهمية التعلم من التجارب الدولية الناجحة مثل مبادرة “الشرق الأوسط الأخضر” التي أطلقتها المملكة العربية السعودية، والتي تهدف إلى زيادة الغطاء النباتي ومكافحة التصحر، كما وأشار إلى مبادرات عالمية أخرى مثل “تحدي بون” الذي يهدف إلى استعادة ملايين الهكتارات من الغابات بحلول عام 2030.
في ختام تصريحه، شدد الحسن على أن استعادة الغابات السورية تتطلب تعاوناً محلياً ودولياً، وأكد أن حماية الغابات ليست مجرد مسؤولية بيئية، بل هي واجب ديني وأخلاقي ووطني، مستشهداً بحديث الرسول ﷺ: “إنْ قامَتِ السَّاعةُ وفي يدِ أحدِكُم فَسيلةٌ، فإنِ استَطاعَ ألّا تَقومَ حتَّى يغرِسَها فلْيغرِسْها”.
بدون تحرك عاجل، قد تصبح المناطق المتضررة غير قابلة للإصلاح، مما يعمّق الأزمة البيئية، ويزيد معاناة السكان، الحل يبدأ الآن، بزراعة بذور الأمل والعمل المشترك.
هبة الله سليمان