في سياق السعي المستمر لحماية حقوق الضحايا، تبرز قضية حماية الأدلة المتعلقة بانتهاكات حقوق الإنسان في معتقلات سلطة الأسد البائد، كأحد التحديات الكبرى التي تواجه مسار تحقيق العدالة للضحايا وذويهم.
أوضح المحامي والناشط الحقوقي مازن جمعة لقناة حلب اليوم، أن: “العبث بالمؤسسات الحكومية والقطاعات العسكرية وأماكن الاحتجاز والتوقيف والسجون، خاصة تلك المخصصة لمعتقلي الرأي، أمراً خطيراً وضارا للغاية”.
تنص اتفاقيات جنيف لعام 1949 والبروتوكولات الإضافية الملحقة بها على ضرورة حماية الأدلة في أماكن وقوع الانتهاكات، خصوصاً تلك التي تصنف ضمن جرائم الحرب أو جرائم ضد الإنسانية.
ويُعد إتلاف الأدلة أو تعديلها في أماكن شهدت انتهاكات جسيمة انتهاكاً صريحاً لمبدأ عدم الإفلات من العقاب، وهو مبدأ معترف به دولياً لضمان العدالة للضحايا، ويمكن تصنيف هذه الأفعال ضمن عرقلة سير العدالة، والتي يعاقب عليها وفقاً للقوانين الوطنية السورية والممارسات القانونية الدولية.
وبيّن المحامي في سياق تأثير طمس الأدلة على مسار العدالة الانتقالية وحقوق الإنسان في سوريا: “للأسف الشديد، إلى جانب الجرائم الكبرى التي ارتكبها النظام السوري، ارتكب جريمة أخيرة تمثلت في إتلاف مئات الآلاف من السجلات والوثائق والتقارير الرسمية قبل سقوطه وفرار أفراده من الأفرع الأمنية والسجون، خاصة في دمشق وحمص، أما في حلب وحماة، فقد كانت الأوضاع أكثر استقراراً، لقد أقدم النظام على هذه الخطوة لحماية عناصره وضباطه، وكل من تورط معه في الجرائم، ما شكّل عائقاً كبيراً أمام تحقيق العدالة ومحاسبة المسؤولين”.
وشدد على أن ما تبقى من الأدلة يُعد أمراً بالغ الأهمية، ويتطلب جهوداً كبيرة للحفاظ عليه، وأرشفتها بشكل احترافي من قِبل فرق مختصة.
وفي هذا السياق قامت نقابة محامي حلب الأحرار من خلال فريق التوثيق بجمع عدد من السجلات والوثائق من سجن صيدنايا، حيث كانت مبعثرة وممزقة، ثم أرشفتها رسمياً وتسليمها إلى النيابة العامة في حلب بموجب محضر رسمي، هذه الوثائق تضمنت أسماء ضباط وعناصر أمنية وسجناء، وتشكل أدلة مهمة لملاحقة المجرمين وكشف مصير المفقودين.
وأضاف فيما يتعلق بدور الحكومة في حماية الأدلة، أصدر وزير العدل في حكومة تصريف الأعمال تعميماً رسمياً يُلزم جميع الجهات والأفراد الذين بحوزتهم وثائق من المؤسسات العامة بتسليمها إلى الجهات المختصة، لضمان الاستفادة القصوى منها في التحقيقات ومحاسبة الجناة، ويتحمل المسؤولية الكاملة كل شخص أو جهة تورطت في إخفاء أو إتلاف أدلة على جرائم سلطة الأسد، كما يجب على السلطات المحلية فرض حراسة مشددة على المؤسسات الحكومية وأماكن الاحتجاز لمنع أي تدخل أو عبث بالمحتويات.
وفي سياقٍ متصل انتشر خلال الأيام الماضية فيديو وُصف بأنه محاولة لطمس الأدلة المتعلقة بانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان ارتكبتها سلطة الأسد المخلوع، قام بها فريق “سواعد الخير” والذي أثار استياء الكثيرين ممن اعتبروا ذلك إساءة للمعتقلين وذويهم، ومحاولات لطمس الأدلة على جرائم سلطة الأسد.
ويرى المحامي أنه لا يعد محاولة لطمس الأدلة ما لم تكن هناك أفعال أخرى مرافقة لذلك، مثل حرق أو إتلاف أو إخفاء وثائق أو أدوات تعذيب أو سجلات، و أضاف: “يجب فتح تحقيق شفاف لمعرفة الدوافع والجهات التي تقف وراء هذا الفعل، وما إذا كان هدفهم طمس الأدلة، أو كان مجرد تصرف فردي، والحفاظ على ما تبقى من الأدلة مسؤولية وطنية وأخلاقية لضمان تحقيق العدالة، ومحاسبة المتورطين في الانتهاكات، وكشف مصير المفقودين والضحايا”.
على الرغم من تعريف فريق “سواعد الخير” لنفسه كمجموعة تطوعية، إلا أن القانون لا يستثن الأفراد أو الكيانات غير الحكومية من المساءلة إذا ثبت تورطهم في أعمال تهدف إلى إخفاء أدلة على جرائم جسيمة، فإن أي جهة تشارك أو تسهم على نحو مباشر أو غير مباشر في طمس الأدلة تتحمل المسؤولية القانونية.
وأشار المحامي إلى أن المجتمع الدولي والمنظمات الحقوقية لا تملك حالياً دوراً مباشراً في حماية الأدلة داخل سوريا، مؤكداً ضرورة تعزيز التعاون مستقبلاً بين السلطات المحلية والمنظمات الدولية المتخصصة في توثيق وأرشفة الأدلة، لضمان محاسبة جميع المتورطين في الجرائم.
وأكمل: “هذا التعاون سيكون أساسياً في تحديد أكبر عدد ممكن من المتورطين في الجرائم المرتكبة بحق الشعب السوري، وبعد الانتهاء من عمليات التوثيق والأرشفة، يمكن تسليم هذه الأدلة إلى الجهات القضائية الدولية أو المحاكم الوطنية التي قد تُنْشَأ لمحاسبة مرتكبي جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، لضمان عدم الإفلات من العقاب وتحقيق العدالة للضحايا”
وذكر المحامي توصيات من شأنها حماية الأدلة التي تثبت جرائم سلطة الأسد وانتهاكاته، تبدأ بإصدار تعميم رسمي من رئاسة مجلس الوزراء في حكومة تصريف الأعمال، يُوَزَّع على جميع الوزارات والمؤسسات الحكومية، وينص التعميم على منع أي شخص من الدخول إلى المؤسسات العامة ودوائر الدولة دون تصريح رسمي، ومنع العبث بأي من محتوياتها، وإلزام الأفراد والجهات التي بحوزتها وثائق أو مستندات رسمية بتسليمها إلى الجهات المختصة أو إلى النيابة العامة لضمان حفظ الأدلة، بالإضافة إلى فرض رقابة مشددة على المواقع الحساسة، خاصة السجون والأفرع الأمنية، لتجنب أي تدخل أو إتلاف للأدلة، يُعتبر هذا الإجراء، إذا طُبِّق بصرامة وفعالية، كافياً لضمان حماية الأدلة ومحاسبة المتورطين في الجرائم.
وفي ختام حديثه وجه المحامي مازن جمعة، رسالة إلى ذوي الضحايا، مؤدكاً لهم أن حقوقهم أمانة في أعناق كل من شارك في الثورة، مضيفاً: “سنواصل سعينا في المحاكم المحلية والدولية لضمان محاكمة الجناة ومحاسبتهم على جرائمهم، حتى ينالوا العقاب العادل، هذه مسؤوليتنا وواجبنا الأخلاقي والوطني، فمعركتنا اليوم هي معركة حقوقية عادلة تهدف لتحقيق العدالة والإنصاف لكل الضحايا”
ووجه حديثه أيضاً للمجتمع الدولي، قائلاً: “ندعو المجتمع الدولي إلى تحمل مسؤولياته الأخلاقية والقانونية من خلال دعم الحكومة السورية الحالية ومساندة جهودها في تحقيق العدالة، كما نطالب بضرورة رفع العقوبات المفروضة على سوريا لدعم جهود إعادة الإعمار وبناء الدولة، بالإضافة إلى التعاون مع السلطات والمحاكم المحلية لتسليم بشار الأسد، وكل الفارين من وجه العدالة، بهدف محاكمتهم محاكمة عادلة وعلنية داخل سوريا، أسوةً بما جرى مع العديد من الطغاة الذين ارتكبوا الجرائم ضد شعوبهم، إن تحقيق العدالة ومحاسبة المسؤولين عن الجرائم هو الطريق الوحيد لضمان الاستقرار وإعادة بناء سوريا على أسس من العدالة والكرامة الإنسانية”.
تعد حماية الأدلة المتعلقة بانتهاكات حقوق الإنسان في سوريا مسؤولية وطنية ودولية لضمان محاسبة المتورطين في الجرائم، ويجب أن تتضافر جهود السلطات المحلية والمنظمات الدولية لضمان العدالة، وإنصاف الضحايا، وتسليم المجرمين الذين ارتكبوا الجرائم ضد الشعب السوري، بالإضافة إلى منع الاقتراب من المعتقلات أو المساس بما يمكن أن يضلل العدالة، ويخفي آثار إجرام سلطة الأسد المخلوع.
هبة الله سليمان