تتجه أنظار السوريين إلى اقتصادهم وعملتهم المحلية، حيث تمثل التحديات المعيشية وتحسين الأوضاع المادية أبرز تطلعاتهم اليوم، بعد هبوط أكثر من 90 بالمائة من الشعب إلى ما دون خط الفقر.
ولم تقتصر معاناة الشعب السوري خلال عهد الأسد على كبت حرية الرأي وفرض القيود السياسية، بل كانت القيود الاقتصادية تكبل أية تحركات أو رغبة في الإنتاج والتحسين، حيث تم فرض قوانين توصف بالبالية والفاشلة، فضلا عن تسلط بشار الأسد وعائلته على أصحاب رؤوس الأموال وابتزازهم.
وشهدت الليرة السورية تحسنا طارئا بعد سقوط الأسد، قبل أن تعود وتهبط لقيمة قريبة مما كانت عليه خلال عهده، فيما يتحدث السوريون عن مدى إمكانية التحكم بسعر الصرف أو حذف صفر، أو طباعة عملة جديدة مختلفة خلال الفترات المقبلة.
وقال الخبير الاقتصادي السوري، فراس شعبو، لموقع حلب اليوم، إن الأهم حاليا تحقيق الاستقرار على الصعيد السياسي، والحصول على الاعتراف والدعم الدولي، من أجل تأمين الأرضية المناسبة للنهوض بواقع الاقتصاد والعملة الوطنية.
وسجلت الليرة السورية اليوم سعر 14000 شراء، و15000 مبيعا، فيما سجلت 12500 شراء و13500 مبيعا منذ نحو 3 أيام، ما يعني أنها عادت للانخفاض الطفيف بعد ارتفاعها المؤقت، لكنها لا تزال مستقرة خلال هذه الأيام الثلاثة الأخيرة.
يأتي ذلك بعد انهيار الليرة الذي ترافق مع انهيار النظام، حيث سجلت نحو 22000 ألف ليرة للدولار الواحد، لكنها سرعان ما تحسنت مع وصول قوات الإدارة العسكرية إلى دمشق، مما أعطى السوريين مزيدا من الأمل في تحسين واقعهم.
لكن شعبو لا يرى الأهمية الأساسية لقيمة الليرة وسعر الصرف، فالمهم خلال هذه الفترة هو الاستقرار في القيمة، بما يتيح جوا مناسبا للتعاملات التجارية، فموضوع تحسين الليرة السورية حيوي جدا الآن ولكنه يتعلق بتغيرات كثيرة.
واعتبر أن ما حدث في الفترة السابقة من تحسن لليرة هو أمر غير منطقي، “فدائما عندما تتعرض الدولة لصدمة فمن المؤكد أن الأثر يظهر فورا على العملة، لكن ما حدث يمكن تسميه استفادة لبعض الأفراد أو بعض الجهات أو أذرع النظام السابق من حالة الخلل والفوضى الموجودة في السوق، حيث سحبوا كميات من الدولار من السوق، وهذا ما أدى إلى تغيير السعر، كما أن هناك أفرادا ممن كانت أعمالهم متوقفة، وبالتالي أخرج أغلبهم مدخراتهم لتيسير أمورهم، كما أن القادمين من الخارج كانت لديهم مبالغ بالدولار أو الليرة التركية وهو ما زاد الطلب على الليرة السورية”.
ولفت أيضا إلى تأثير الحالة النفسية حيث أتيح استخدام الدولار والتصريف بسهولة، وفتحت الحدود والحواجز التي كانت مفروضة على نقل العملة، مما انعكس على سعر الصرف إيجابا ولكن لفترة مؤقتة، ولم تكن حالة مستدامة، وعليه يمكن وصف التحسن بأنه كان حالة “مؤقتة ووهمية”.
ولكن النظر إلى واقع الليرة السورية يعطينا انطباعا مختلفا، إذ يؤكد الخبير السوري أنه من المفترض أن تنخفض لأكتر من السعر الحالي، حيث سيزيد الانفاق وتزيد الكتلة النقدية في السوق لفترة، ومن الأمثلة على ذلك أن الحكومة الانتقالية سترفع الرواتب لأربعة أضعاف، وهذا بحد ذاته مؤشر على أن الأسعار سترتفع لأن حالة التضخم سترتفع أيضا، بسبب زيادة الكتلة النقدية في السوق.
وكانت حكومة تصريف الأعمال قد أعلنت عزمها رفع الرواتب إلى أربعة أضعاف، مع الإشارة إلى الوضع الصعب الذي يعانيه اقتصاد الدولة، مع العلم بأن متوسط الرواتب يبلغ نحو 15 – 20 دولارا أمريكيا، وسيعادل بعد الزيادة 45 – 60 دولارا فقط.
ومع عدم معرفة كمية الكتلة النقدية الموجودة حاليا بسبب التعتيم على البيانات من قبل النظام السابق، فإنه من الصعب تقدير وضع الليرة السورية، لكن شعبو يرى أنه سيتجه نحو التراجع البسيط على المدى المنظور، إلا أن حجم هذا الانخفاض مرتبط بالإصلاحات الاقتصادية، وبالدعم الدولي، والاستقرار السياسي الذي يمكن أن يحصل في سوريا، ومرتبط أيضا بمحاربة الفساد وإعادة هيكلة الدولة وإصلاح القوانين البالية.
وتتحدث الحكومة الحالية عن جهود حثيثة تبذلها لفرض الأمن والاستقرار الداخلي، عبر إحباط السرقة والانتهاكات ومنع الفوضى، وتقريب وجهات النظر بين مكونات الشعب السوري، وهو ما أعطى مؤشرات إيحابية على الصعيدين الداخلي والخارجي، وفقا لمراقبين.
أما على الصعيد الاقتصادي فيرى شعبو أن الحكومة بدأت بالفعل بإجراءات إيجابية، حيث ألغت السلبيات المتعلقة بموضوع الجمارك ومنصة التمويل، وعدلت الكثير من الأمور التي تساهم في تنشيط العملية التجارية، “لكن لا يزال الأمر بحاجة وقت.. لا نطالب بشيء معجز لأن الواقع صعب، ويمكن وصف ما تم تقديمه بالمعجزات لحد الان، ولكن الإنسان دائما يطالب بالأفضل”.
وأشار الخبير الاقتصادي السوري إلى أن الأولوية الآن هي لدعم البنية التحتية، لأنها الأساس في استقرار الليرة وحتى يكون هناك نوع من التحسن، فالمطلوب اليوم هو الاستقرار وليس المطلوب أن نخفض أو نرفع قيمة العملة، فالتاجر حاليا يريد أن يستقر سعر الصرف حتى يستطيع التداول في البيع والشراء، لأن تذبذب قيمة العملة يمثل مشكلة لدى التاجر الذي لا يستطيع ضبط أرباحه ولدى المستهلك الذي لا يستطيع ضبط مصاريفه، لذلك فنحن في حاجة الآن إلى الاستقرار في سعر الصرف.
ولا يستبعد شعبو أن يتغير سعر الصرف بعد فترة ويرتفع ولكن بضوابط، كما يرى أنه من الممكن بعد فترة أن يتدخل المصرف المركزي ويعيد طباعة العملة بشكل أو بآخر.
أما بخصوص طباعة العملة “فنحن بحاجة اليوم إلى ضبط الكتلة النقدية الموجود في السوق سواء كانت في المصرف المركزي أو المصارف الأخرى أو في الأسواق، إذ هناك الكثير من الناس محتفظون بمدخرات ونحن بحاجة لضبطها، ولأن نعمل على نشر التوعية بخصوص العملة الجديدة، ومن ثم نسعر العملة”.
وهناك فرق كبير بين تسعير العملة وبين استبدالها، فالتسعير يعتمد على قوة الاقتصاد وعلى الاحتياطيات الأجنبية وعلى مدى قبول هذه العملة في الدول، ولذلك نحن بحاجة لدعم دولي مادي ومالي ولوجيستي، حتى يكون هناك نوع من الزخم لهذه العملة الجديدة.
كما أن موضوع استبدال العملة أو إزالة الأصفار مرتبط بما تملكه الحكومة من احتياطيات وقدرة على دعم الإنتاج والموارد، أو إعادة تفعيل موارد الدولة، فالقضية ليست في رفع الأصفار لتحسين الليرة، والمهم هو القيمة المكتسبة من حوامل الليرة، فإذا كان رافعها الأساسي غير موجود وهو الاقتصاد الداخلي، واحتياطيات الذهب ضعيفة فإنه ذلك سيكون صعبا.
وكانت وكالة رويترز قد نقلت عن مصادر من حكومة تصريف الأعمال تأكيدها وجود 26 طنا من الذهب في خزينة الدولة، ولا تزال كمية القطع الأجنبي غير معروفة، لكن ذلك الاحتياطي لم يكن يكفي لطباعة الأموال، حيث أكد المصدر أن نظام الأسد قد يطبع العملة بدون غطاء.
وحول كمية احتياطي الذهب؛ قال شعبو إن 26 طنا في عرف الدول “لارتعتبر شيئا ذا قيمة، فمثلا لبنان البلد المتهالك اقتصاديا وهو على وشك الإفلاس لديه ما يقرب من 286 طن من الذهب فما بالك بسوريا؟ طبعا هذا الأمر يعود لفشل وفساد النظام لأنه لم يعمل شيئا يخص هذا الموضوع”.
يأتي ذلك رغم أن “سوريا أم الموارد ولديها اكتفاء ذاتي بالنفط والغاز والفوسفات والزراعة والصناعة والتجارة والسياحة، والموارد الضريبية، فحجم هذه الاحتياطيات القليل يمثل كارثة، فضلا عن طباعة العملة بدون رصيد ولو تكرر فسوف يسبب مشاكل”.
ولكن تبدو الحكومة اليوم “مدركة للوضع، فمسؤولوها ليسو حديثي عهد بالإدارة وهم مدركون للمشاكل الموجودة، لكن قد نضطر أحيانا لاستخدام أسلوب غير سليم لتسيير الأمور، فمثلا رفع الرواتب لأربعة أضعاف من المؤكد أنه سيؤدي للتضخم وانخفاض قيمة العملة ولكن الشعب منهك تماما نتيجة ارتفاع الأسعار وخاصة أسعار الطاقة بشكل كبير، فرفع الرواتب سيؤدي للتضخم ولكن عدم رفعها سيكون أيضا كارثيا على الشعب بسبب ارتفاع معدلات الفقر”.
وأضاف شعبو: “نحن اليوم في فترة استثنائية تقتضي اتخاذ قرارات استثنائية قد لا تكون سليمة ولكنها الأنجع في هذه الفترة، وهو ما تعانيه الحكومة الحالية، ولا يجب أن نفكر بمطالب مثالية ولا يمكن تطبيق قوانين صحيحة بينما وضع البلد كله غير صحيح، وهذه المشكلة التي قد لا يدركها البعض.. المهم اليوم هو الاستقرار السياسي، ثم ننتقل إلى مراحل أخرى، ففي حال استقرت البلد سياسيا وحصلت الحكومة على اعتراف دولي، فستكون عملية تحسين الليرة عملية سهلة”.
وكان مصدر في الخارجية الأمريكية قد كشف لـ “حلب اليوم” أبرز مخرجات الاجتماع الذي جرى في دمشق بين مسؤولين أمريكيين وأحمد الشرع، حيث تم بحث مبادئ الانتقال السياسي التي أيّدتها الولايات المتحدة وشركاؤها الإقليميون خلال اجتماعات العقبة بالأردن، وتعزيز التعاون لإيجاد حل مستدام للأزمة السورية، والتواصل مع الأطراف السورية الرئيسية لدعم مبادئ الانتقال السياسي وتحقيق الاستقرار في البلاد.