مع سقوط نظام بشار الأسد بعد أكثر من عقدين من الحكم، يعيش الشعب السوري حالة من الترقب والانتظار لتحقيق العدالة لضحايا الانتهاكات والجرائم المرتكبة خلال سنوات الحرب، إذ أعاد فرار الأسد إلى روسيا تسليط الضوء على السيناريوهات المحتملة لمحاكمته، في ظل تعقيدات سياسية وقانونية قد تحول دون تحقيق هذا الهدف، في وقتٍ تتزايد الأصوات المطالبة بمحاكمة بشار الأسد، الذي يواجه اتهامات بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، بالإضافة إلى تورطه في عمليات القمع الممنهجة التي راح ضحيتها آلاف السوريين.
في هذا الصدد، تحدث الدكتور عباس عبيد، أستاذ القانون الدولي، لحلب اليوم، بإسهاب عن الدور الذي يمكن أن تلعبه المحكمة الجنائية الدولية في محاكمة بشار الأسد، مشيراً إلى أن المحكمة هي الجهة الأكثر تأهيلاً للتعامل مع الجرائم الدولية الجسيمة، مثل جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، وأوضح عبيد أن الجرائم التي ارتُكبت في سوريا طوال العقد الماضي تُعد واحدة من أكبر التحديات التي تواجه القانون الدولي في العصر الحديث، مشيراً إلى أن تحقيق العدالة يتطلب مساراً قانونياً دقيقاً وشاقاً.
وقال عبيد: “المحكمة الجنائية الدولية تُعد الجهة الأساسية المختصة بمحاكمة قادة الدول الذين تورطوا في انتهاكات جسيمة، ومع ذلك، هناك عقبة رئيسية في حالة سوريا، وهي أن نظام الأسد (سلطة الأسد سابقاً) لم يوقع على ميثاق روما المؤسس للمحكمة الجنائية الدولية، مما يجعل اختصاص المحكمة في هذه القضية محدوداً ما لم يتم إحالة الملف إلى المحكمة عبر مجلس الأمن الدولي”.
وأوضح عبيد أن إحالة ملف الأسد إلى المحكمة الجنائية الدولية تتطلب قراراً من مجلس الأمن بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، وهي عملية معقدة للغاية؛ بسبب الفيتو الروسي والصيني المستمرين، واللذين يُستخدمان لحماية الأسد من أي ملاحقة قانونية.
وأضاف: “هذا لا يعني أن محاكمة الأسد مستحيلة، إذ يمكن للمجتمع الدولي البحث عن خيارات قانونية بديلة، مثل إنشاء محكمة خاصة للنظر في الجرائم المرتكبة في سوريا، على غرار محاكم رواندا ويوغوسلافيا السابقة، ومع ذلك، فإن إنشاء مثل هذه المحاكم يتطلب توافقاً دولياً واسعاً، وهو أمر صعب في ظل الانقسامات السياسية الحالية.”
وأشار إلى أن المنظمات الحقوقية السورية والدولية تلعب دوراً محورياً في توثيق الجرائم وتهيئة الملف القانوني لمحاكمة الأسد، منوّهاً أن هناك تحقيقات غير معلنة تجريها هذه المنظمات بالتعاون مع محامين وخبراء قانونيين دوليين، تهدف إلى جمع أدلة دامغة وشهادات موثوقة.
وقال: “الجهود التي تبذلها المنظمات الحقوقية السورية والدولية ستشكل القاعدة التي ستُبنى عليها أي محاكمة مستقبلية للأسد، حيث تشمل الأدلة وثائق رسمية مُسربة، شهادات من ناجين، تقارير طبية، وصور وأشرطة فيديو توثق الجرائم، حيث تعتبر هذه الجهود أساسية لإقناع المجتمع الدولي بضرورة محاسبة الأسد”.
وفيما يتعلق بالمحاكم المحلية السورية، قال عبيد إنها قد لا تكون الخيار المناسب حالياً لمحاكمة الأسد، مشيراً إلى أن استقلالية القضاء السوري لا تزال موضع شك كبير بسبب استمرار نفوذ النظام ومؤيديه في العديد من المؤسسات. وأضاف: “غياب قضاء مستقل في سوريا يجعل المحاكم الدولية أو المحاكم المختلطة الخيار الأمثل لتحقيق العدالة. المحاكم المختلطة، التي تجمع بين القانون الوطني والدولي، قد تكون حلاً عملياً إذا ما أُعيد بناء النظام القضائي في سوريا على أسس أكثر شفافية واستقلالية.”
وأردف بأن المجتمع الدولي عليه دور كبير في دعم جهود محاكمة الأسد، سواء من خلال الضغط السياسي على الدول التي تدعم الأسد أو عبر تقديم الدعم الفني والقانوني للمنظمات التي تعمل على توثيق الجرائم، وذلك لأن التجارب السابقة في محاكمة قادة مثل سلوبودان ميلوسيفيتش تُظهر أن العدالة ممكنة إذا توافرت الإرادة السياسية والدعم الدولي، ولذلك فإن الأسد لن يظل محصنًا إلى الأبد، ولكن الأمر يتطلب عملًا مستمرًا وصبرًا لتحقيق العدالة.”
وختم عبيد حديثه بالتأكيد على أن العدالة قد تكون بطيئة لكنها ليست مستحيلة. وقال: “الجرائم التي ارتُكبت في سوريا لا يمكن أن تمر دون محاسبة، سقوط الأسد هو الخطوة الأولى، ولكن الجهود القانونية والسياسية يجب أن تستمر حتى نرى المسؤولين عن هذه الجرائم يمثلون أمام القضاء، بغض النظر عن المدة التي قد يستغرقها ذلك، كما أن المحاكمة العادلة للأسد ستكون نقطة تحول في تاريخ سوريا، وستوجه رسالة قوية إلى العالم بأن الجرائم ضد الإنسانية لا تسقط بالتقادم، وأن العدالة ستتحقق في نهاية المطاف.
تعقيدات المشهد بسبب فرار الأسد إلى روسيا
يشير العميد المتقاعد أحمد الفج، إلى أن فرار الأسد إلى روسيا يجعل تحقيق العدالة أكثر تعقيداً، وذلك لأن موسكو ليست طرفاً في المحكمة الجنائية الدولية وترفض التعاون معها، ما يعني أن أي تحرك لمحاكمة الأسد قد يتطلب قراراً من مجلس الأمن الدولي لإحالته إلى المحكمة بموجب الفصل السابع، ولكن هذا الخيار معقد بسبب حق النقض (الفيتو) الذي تستخدمه روسيا لحماية الأسد.”
ويضيف الفج في حديثه لحلب اليوم أن هناك تجارب دولية مشابهة، مثل إنشاء محاكم خاصة لمحاكمة مجرمي الحرب في يوغوسلافيا ورواندا، لكنها تحتاج إلى توافق دولي قد لا يكون متاحاً في الوقت الحالي.
أصوات من الضحايا والشهود
هذا وتُضيف التجارب الشخصية للناجين من قمع سلطة الأسد المخلوعة بعداً إنسانياً لهذا الملف، حيث يقول الناشط الحقوقي محمد كامل الحسين، أحد المعتقلين السابقين في سجون سلطة الأسد: “نحن لا نريد فقط إسقاط سلطة الأسد، بل نطالب بمحاسبة الأسد وكل من تورط في القتل والتعذيب، وأنا اليوم لديّ شهادات وأدلة وثقتها خلال سنوات اعتقالي، كما أن هناك عشرات المنظمات التي تعمل على جمع هذه الشهادات لتحريك الدعوى دولياً”.
وأضاف الحسين لحلب اليوم أن الكثير من السوريين يعيشون على أمل تحقيق العدالة، مشيراً إلى أن ذلك يتطلب تضافر الجهود بين الناجين والمحامين الدوليين ومنظمات حقوق الإنسان.
فرص قانونية أمام السوريين
بدوره، يرى المحامي أحمد بكور، أن هناك فرصاً قانونية يمكن أن تُستغل في محاكمة بشار الأسد، خاصة من خلال مبدأ “الاختصاص العالمي”، الذي يُعد من الأدوات الفعّالة لملاحقة مجرمي الحرب، وأوضح بكور أن هذا المبدأ يتيح لدول معينة، خصوصا في أوروبا، فتح قضايا ضد أفراد متهمين بارتكاب جرائم دولية خطيرة، مثل جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، حتى لو لم تقع تلك الجرائم على أراضيها أو لم يكن المتهمون أو الضحايا من مواطنيها.
وأضاف بكور: “بعض الدول الأوروبية، مثل ألمانيا والسويد وفرنسا، لديها قوانين تسمح بمحاكمة مرتكبي الجرائم الدولية بناءً على شكاوى يقدمها الناجون أو المتضررون، حتى لو لم يكونوا يحملون جنسية تلك الدول. وقد شهدنا بالفعل محاكمات لمسؤولين سابقين في النظام السوري في ألمانيا، وهو ما يمثل بارقة أمل للضحايا”.
وأشار في حديثه لحلب اليوم إلى أن المحاكم الأوروبية تعتمد بشكل كبير على الأدلة والشهادات المقدمة من الضحايا والمنظمات الحقوقية، مما يجعل توثيق الجرائم أمراً بالغ الأهمية، وأوضح أن هذا يشمل جمع شهادات مباشرة من الناجين، تسجيلات مصورة، وثائق حكومية مُسربة، وحتى التقارير الطبية التي تثبت حالات التعذيب أو القتل.
وتابع قائلاً: “الاختصاص العالمي لا يتطلب إثباتاً شاملاً كما هو الحال في المحاكم الجنائية الدولية، ولكنه يعتمد على تقديم دلائل قوية تكفي لفتح القضية وملاحقة المتهمين. هذا يجعل الطريق مفتوحاً أمام الناجين السوريين، خاصة أولئك الذين يقيمون في أوروبا، لتقديم شكاوى رسمية مدعومة بالأدلة.”
وأشار إلى أن روسيا توفر للأسد ملاذاً آمناً، وتحميه من الملاحقات الدولية، مستغلة موقعها كعضو دائم في مجلس الأمن واستخدامها المتكرر لحق النقض (الفيتو) لإحباط أي قرارات تدعو لمحاسبته.
خلاصة الكلام، يبقى ملف محاكمة بشار الأسد مفتوحاً على احتمالات عديدة، في وقتٍ تواصل المنظمات الحقوقية جهودها لتوثيق الجرائم وتقديم الملفات للمحاكم الدولية، تبقى التحديات السياسية والقانونية عائقاً كبيراً أمام تحقيق العدالة، ومع ذلك، يظل الأمل لدى السوريين قائماً في أن يأتي يوم تتحقق فيه العدالة، ليُحاسب كل من تورط في الجرائم ضد الإنسانية.
عمر حاج حسين