رغم الدعوات المستمرة لتحديد أجور المعاينة الطبية، لا تزال التكاليف المرتفعة للعلاج مشكلة تواجه الأهالي في الشمال السوري، مع تراجع مستويات الدخل والارتفاع المستمر في معدلات الفقر والبطالة.
وترفض كل من الحكومة المؤقتة في ريف حلب، وحكومة الإنقاذ في ريف إدلب فرض تخفيض الأجور على الأطباء، ويعتبر ذلك من صلاحيات نقاباتهم التي لا ترى مشكلة في الأجور الحالية.
وتتراوح أجور المعاينة في المتوسط بين 100 و 200 ليرة تركية، مع العلم بأن قلة قليلة من الأطباء من يتقاضى المائة فقط، وتتراوح غالبية الأجور بين 150 ليرة تركية (4.35 دولار) و 200 ليرة تركية (5.8 دولار).
يؤكد الشاب الثلاثيني “حسام .ح” القاطن في مدينة إدلب، لموقع حلب اليوم، أنه يُضطر في معظم الأحيان للاكتفاء بوصفة الصيدلي المجاور لمنزله، حيث إن لديه ثلاثة من الأولاد يحتاجون إلى مصاريف شتّى، ليس أقلها الدواء والعلاج.
ومع حلول فصل الخريف وانخفاض درجات الحرارة وتقلبات الطقس، أصاب المرض كافة أفراد العائلة البالغ عددهم خمسة أشخاص، ما يعني أن عليه دفع ما بين 500 إلى 1000 ليرة لأجور المعاينة فقط، فضلا عن ثمن الدواء.
وترتفع أيضا أسعار الأدوية دون استجابة لشكاوى الأهالي بخصوصها، فيما تتفاوت التسعيرات بين الصيدليات بشكل واضح، لكن الشاب اعتاد التوجه إلى صيدلية معينة بعد أن وجد فيها أسعارا مناسبة، وخيرة جيدة من الصيدلاني.
ومع صرف الأخير للدواء لكافة أفراد العائلة بشكل جماعي بناء على وصف حسام، وبدون وصفة طبية، بقي عليه دفع نحو 200 ليرة ثمنا للدواء، أي ما يعادل أجرة يومين كاملين من العمل.
يؤكد الشاب أن الحل الصحيح هو التوجه للطبيب المختص، عوضا عن اعتماد وصفات بدون فحص، لكنه مضطر لذلك، رغم انتشار عيادات مجانية.
وبحسب الشاب، فإن الخدمة الجيدة في المشافي والعيادات العامة لا تُغني عن الذهاب للطبيب الخاص، موضحا أن الأطباء في “العام” يتفاوتون في مستوى خبراتهم وتشخيصهم، وبالتالي فإن التوجه إلى هناك قد يكون بمثابة “ضربة حظ” أحيانا، وفقا لتعبيره.
ورغم أنه لجأ للمشافي العامة مرارا ووجد ضالته فيها، مؤكدا أن هناك العديد من الأطباء الجيدين، إلا أنه سيواجه أيضا مشكلة الانتظار الطويل بسبب الازدحام وصعوبة الحجز، بينما لا يستطيع ترك عمله مطلقا لأنه سيخسر “اليومية” التي يعيش بها.
ولا تقف المشكلة عن المعاينة في العيادات، بل تتعداها لأجور المشافي المرتفعة التي تفوق قدرة معظم السكان، وذلك في حال اضطرارهم إلى الجوء إلى “الخاص” لعدم توافر العلاج بالمشافي المجانية.
ويلجأ الكثير من السكان للاكتفاء بالبحث عبر الإنترنت، ومقارنة الأعراض التي يشتكون منها بما يقرأونه، واللجوء إلى الصيدليات للحصول على الدواء المناسب، رغم وجود المخاطر.
يؤكد الصيدلاني “محمد .ع” لحلب اليوم، أن هذا الوضع قد يكون محرجا للعديد من الصيادلة، إذ إنه من الواجب عليهم أن لا يصرفوا أي دواء باجتهاد شخصي من عندهم، باستثناء الحالات البسيطة، إلا أنهم يدركون أن ضعف القدرة المادية هو ما يدفع الناس للجوء إليهم.
ويضيف أن المعاينات السطحية، تعود بالضرر على المرضى في كثير من الأحيان، لوجود تداخلات دوائية، أو تداخلات في الأعراض بين الأمراض المختلفة، أو عدم شرح المريض لمشكلته بشكل جيد.
ومع لجوء المرضى إلى البحث عن العلاج عبر الإنترنت وشراء الأدوية بدون معاينة الطبيب، تبرز مشكلات مثل تفاقم المرض بدلا من علاجه بسبب استخدام الدواء الخاطئ، أو أخذ جرعات زائدة من الفيتامينات والمعادن.
وبحسب الصيدلاني الشاب فإن الصيدليات يمكن أن تكون خيارا جيدا في الحالات المرضية الشائعة، حيث تختصر على المريض الوقت والكلفة، لكن الأفضل دائما هو الرجوع للطبيب، وما يشجع على ذلك هو خفض التعرفة الطبية في الشمال السوري.
وكان مجلس “نقابة أطباء إدلب الحرة”، قد أصدر في حزيران من عام 2020 قرارًا يقضي بتحديد تسعيرة الكشف الطبي في محافظة إدلب، لكنه سحبه بعد قليل من نشره، عقب الجدل الواسع والاعتراضات على مواقع التواصل الاجتماعي.
وحدد المجلس تسعيرة الكشف لدى الطبيب العام بستة دولارات أمريكية كحد أعلى، أو ما يعادلها من العملات، والتسعيرة لدى الطبيب الاختصاصي بثمانية دولارات أمريكية كحد أعلى، أو ما يعادلها.
وفي أيلول من عام 2022، تم تحديد “تسعيرة” تشخيص المريض لدى الطبيب العام بسعر أربعة دولارات أمريكية، ولدى طبيب عام بخبرة لا تقل عن 10 سنوات بخمسة دولارات أمريكية، ولدى طبيب مختص بسبعة دولارات أمريكية، كما تم تحديد تسعيرة زيارة الطبيب لمنزل المريض (داخل البلد) بسعر 15 دولارا أمريكيا.
وفيما أكد العديد من الأطباء أن هذا البيان لم يكن محل إجماع من قبل كافة أعضاء النقابة، ومع حالة الجدل والاعتراض التي برزت بعده، لم يتم اتخاذ أية آليات لتطبيقه على أرض الواقع، وبقي تحديد أجور المعاينة، والعمليات، والخدمات الطبية في المشافي والعيادات بدون قيود.
وشهدت تكاليف العلاج الطبي ارتفاعا في السنوات الأخيرة، ما أثقل كاهل السكان في الشمال السوري، وسط ارتفاع الطلب على الرعاية الصحية، جراء ازدحام السكان عقب موجات النزوح، وكثرة الإصابات نتيجة القصف المستمر.
ومع ازدياد متوسط عمر السكان وزيادة الأمراض المزمنة، مثل السكري وأمراض القلب، يزداد الإقبال على المشافي والعيادات، وهذا يتطلب موارد مالية وبشرية أكبر للتعامل مع الأمراض المزمنة على المدى الطويل.
كما تشكل الضغوط النفسية الناتجة عن تهجير السكان من قراهم، وارتفاع تكاليف المعيشة مع قلة فرص العمل؛ سببا رئيسيا لزيادة الإصابة بالأمراض المزمنة المذكورة آنفا.
ومع غياب نظم التأمين الصحي التي تغطي احتياجات جميع السكان الطبية، تشكل المشافي والمستوصفات المدعومة من قبل المنظمات خيارا جيدا.
وفي ظل هذا الوضع، يحتاج الشمال السوري إلى تبني الجهات المسؤولة استراتيجيات من شأنها تخفيض تكاليف العلاج، وتنظيم أسعار الأدوية.