يتواصل التراجع البطيء لسعر صرف الليرة التركية أمام الدولار، مما يُضعف قدرتها الشرائية بشكل مستمر منذ عدة سنوات، الأمر الذي يقابله زيادة في الرواتب والأجور وحدودها الدنيا المفروضة من قبل الحكومة في تركيا.
لكن الشمال السوري الذي يعتمد الليرة نفسها في معاملاته المالية اليومية، لا يشهد أي ضوابط للأجور المنخفضة أصلا، حيث لا تكاد تكفي أحيانا لسد الرمق.
ويمثل ضعف أجور العمال تحديًا كبيرًا للمجتمع المحلي في الشمال السوري، والذي يعج بالنازحين وقاطني المخيمات، وسط ارتفاع مستمر للأسعار، فيما تغيب جهود “الحكومات” المحلية، والنقابات.
تنتظر أم حسن النازحة من شرق محافظة إدلب، إلى أطراف مدينة أريحا بريفها الجنوبي، موسم قطاف الزيتون الذي يوشك أن يبدأ بالمنطقة، حيث ستخرج مع مجموعات من النساء إلى قرى في جبل الزاوية القريب منهم للعمل منذ ساعات الصباح الباكر وحتى ما بعد العصر بشكل يومي.
تقول المرأة الخمسينية ذات الأولاد الأربعة لحلب اليوم، إن الأجر اليومي المفترض أن تحصل عليه قد لا يكفي لشراء “راشيتة” دواء واحدة من الصيدلية، لكن عليها أن تقبل بالمئة ليرة فقط بسبب عدم وجود بديل.
أما الشاب “إحسان. ع” فيتقاضى أجرا “جيدا” باعتباره صاحب خبرة جيدة في مجال الفطائر والمعجنات، حيث يأخذ من معلمه 200 ليرة يوميا، مقابل 10 ساعات عمل متواصلة.
يضيف الشاب البالغ من العمر 29 سنة، أن ذلك الأجر لن يُمكنه من الزواج وتحمل أعباء الأسرة على الإطلاق، حيث يصرفه على احتياجاته الشخصية، ويساعد أهله بالقدر المستطاع، ويأمل إما في الهجرة إلى أوروبا، أو افتتاح محل خاص به، لكن المشكلة تكمن في رأس المال المطلوب.
ولا يؤثر ضعف أجور العمال عليهم فقط، بل على الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي للسكان ككل، لأنه يؤثر – وفقا لخبراء – على تحقيق توازن أكثر عدالة في توزيع الثروة وضمان الحقوق، أما مع انخفاض تلك الأجور فسيظل الفقر والتفاوت الاجتماعي يهددان بنية المجتمع واستقراره.
ولا تقتصر تلك المشكلة على الشمال السوري فحسب، بل تعد من القضايا الاقتصادية والاجتماعية الرئيسية التي تؤثر على المجتمعات في مختلف أنحاء العالم، ورغم تلقي موظفي الشركات الكبرى أجورا أعلى نسبيا، إلا أن تحقيق الشركات أرباحاً طائلة تقدر بالمليارات يزيد من التفاوت الطبقي بشكل مستمر.
وفي استطلاع بحثي أجرته شركة “باي سكال” (PayScale) الأمريكية المختصة ببحث ومقارنة متوسط الرواتب، عام 2019، كان 49% فقط من الأشخاص الذين شملهم الاستطلاع ضمن أكثر من 460 وظيفة يعتقدون أنهم يحصلون على رواتب عادلة، في حين يعتقد 46% منهم أنهم يتلقون رواتب منخفضة.
وتوجد في الشمال السوري حالة مشابهة ولكنها أكثر تفاوتا، حيث يحظى أرباب العمل دائما بحصة الأسد من الأرباح، فيما يبقى للعمال والموظفين الفتات.
ومع كونها حالة عالمية ومشكلة قديمة، إلا أن وجود نقابات وحكومات منتخبة ونواب في البرلمان بالدول الديمقراطية، يحول دون سحق العمال بشكل كارثي كما يوجد في سوريا.
ومع عدم توازن القوى بين العمال وأصحاب العمل تبرز الحاجة إلى دور حكومتي الإنقاذ والسورية الموقتة، في حفظ حقوق هؤلاء، وهو ما لا يجري على أرض الواقع، بحسب ما يؤكده “مضر. ح” خريج الحقوق، الذي اضطّر للعمل بالمياومة بسبب عدم حصوله على وظيفة تناسبه.
ويضيف الشاب أن فقدان عوامل الضغط على أرباب العمل يبيح لهم “مكاسرة” العامل للقبول بأدنى حد ممكن، حتى لو جنوا ما جنوا من الأرباح.
وفي العديد من الحالات، يكون العمال في وضع تفاوضي ضعيف مقارنة بأصحاب العمل، فيما يغيب دور النقابات العمالية التي يفترض بها أن تدافع عنهم وتطالب بزيادات عادلة في الأجور أو تحسين ظروف العمل.
آثار اجتماعية خطيرة
يقول محمد حسن المختص في مجال التربية وعلم النفس، إن الآثار السلبية لتلك المشكلة لا تقف عند العامل، بل يؤدي ضعف الأجور إلى زيادة عدد الأشخاص الذين يعيشون تحت خط الفقر، حيث لا يكفي الدخل لتلبية الاحتياجات الأساسية مثل الغذاء، والسكن، والتعليم، والرعاية الصحية، وهو ما ينعكس على كامل الأسرة.
ومع زيادة التفاوت الطبقي بين العمال وأرباب العمل، تتوسع الفجوة بين الفئات الغنية و الفقيرة، مما يؤدي إلى تزايد الاحتقان الاجتماعي وفقدان الأمن.
كما يسبب ذلك تأثيرات نفسية وسلوكية سلبية على العمال الذين يتقاضون أجورًا منخفضة فقد يعانون من ضغوط نفسية كبيرة ناتجة عن القلق المستمر من عدم القدرة على توفير حياة كريمة لأسرهم، وهذا قد يؤدي إلى ظهور مشكلات نفسية مثل الاكتئاب والقلق، كما يمكن أن يؤثر على الإنتاجية في العمل، وفقا لحسن.
وتصل سلسلة التأثيرات السلبية تلك إلى الأطفال، فعندما لا يستطيع الأب تحمل تكاليف التعليم الجيد لأبنائه أو الحصول على الرعاية الصحية المناسبة، فإن هذا يؤدي إلى دورة متواصلة من الفقر وضعف الفرص، حيث يتم إعاقة الأجيال القادمة عن تحسين أوضاعهم المعيشية.
وتجاوز حد الفقر للعائلة الواحدة نحو 7300 ليرة تركية، فيما تبلغ نسبة العائلات التي تقع تحت هذا الحد في الشمال السوري نحو 91%، وفقا لآخر تقديرات فريق منسقو استجابة سوريا.
وتؤكد إحصاءات الفريق أن دخل نحو 83 % من السكان لايتجاوز 50 دولاراً أمريكياً في الشهر، بل إن أكثر من 94 % من العائلات غير قادرة على تأمين مواد التدفئة في الشتاء.