محمد علاء غانم – مسؤول السياسات بالمجلس السوري الأمريكي
أردتُ أن أبيّنَ بعض الأمور حيالَ الجدلِ الدّائر عن التّسميةِ الأنسب للأحداث التي عصفت بسورية السنين ال١٣ الماضية، أهي “ثورة” أم “حرب أهليّة” كما سمّاها البعض.
لكن قبلَ أن أشرعَ في مقالتي عليّ أن أوضح أمرين: منشوري هذا الذي أكتبهُ على عُجالة (وأنا في الطّائرة) ليس تعليقاً على كتابٍ بعينه— فأنا لم أقرأ الكتاب المُختَلَفَ عليه— ولا على ندوةٍ ما، ما فأنا لم أحضرها، بل هو عن جدلِ التّسمية وحسب. كما أنّ هدفي ليس التّشكيك بأحد، إذ أنّني أرى بأنّ علينا أن نتحلّى بأدب الاختلاف حين تتباينُ آراؤنا طالما أنّنا في خندق واحد، وأن نحفظَ بأسنا لعدوّنا وعملائه.
ثانياً، رغم أنًي ناشطٌ ومساهمٌ أساسيّ في هذه الأحداث منذ بدايتها وحتّى اليوم، إلا أنّي لا أكتبُ تعليقي هذا بصفتي ثائراً— مع شديدِ افتخاري بهذه الصّفة— بل بوصفي أكاديمياً وباحثاً استطاع، وبكلّ تواضع، أن يُقْبَلَ وأن يتخرّجَ بتفوّقٍ في أعظم جامعات العالم، ولا أقولُ ذلك تباهياً معاذ الله، فلا فخرَ بما هو فضلٌ محضٌ من الله، بل للتبيان فقط، وبصفتي أيضاً مختصّاً ومُجازاً في مجال النّزاعات من جامعات أميركية.
قد يعتقدُ البعضُ أنّ هناك حقيقةً “علميّة”، “مجرّدةً” و “موضوعيّة” سنهتدي لها لو أعملنا عقلنا فحسب وأسقطنا العاطفةَ من حساباتنا، مفادها بأنّ ما جرى ويجري في سورية هو “حرب أهليّة” ولا ريب، في حين أنّ صفةَ “الثورة” نابعةٌ بالضرورة من تغليبِ العاطفةِ على العقل، ومن التّعامي عن وقائع كثيرة، وبناءً عليه فإنّ استخدام هذا الوصف لا يليقُ بباحثٍ جادّ، ولا مكانَ له في الأدبيّات الرّصينة.
وقد يحتجُّ أصحابُ الرّأي هذا بأنّ السّنينَ التي خَلَت قد شهدت اقتتالاً بين بعض الجماعات العرقيّة والمذهبيّة في سورية لا يستطيعُ إنكارهُ ذو عينين، كمحاربةِ شيعة نبّل والزّهراء لمحيطهم السنيّ الثّائر في حلب مثلاً، أو كاحترابِ فِرقةٍ كرديّة مسلّحة مع عشائر عربيّة في منطقة الجزيرة السورية، الخ.
لكنّ الاعتقاد ب “علميّة” هذا الرًأي أوّلاً، وبأنّ المسمّيات التي يُطلقها علماءُ الاجتماعِ والمؤرّخونَ (والسياسيّون) على الأحداث والوقائع التاريخيّة نابعةٌ من استنباط “موضوعيّ” “مجرّد” موجود في “الطبيعة” بمعزلٍ عن البشر وأهوائهم هو اعتقادٌ خاطئ جدّاً— وغير علميّ.
وحتّى لا نُغْرِقَ في الكلامِ المجرّد فالمقامُ هنا ليس مقامَ تجريد، دعونا نستعرض مثالاً شهيراً:
الحربُ التي شنّها سُكّانُ المستعمراتِ البريطانيّة في ما يسمّى اليوم بالولايات المتّحدة الأميركيّة على الحكم البريطانيّ في القرن الثامن عشر الميلادي كانت وبإقرارِ الكثيرِ من المؤرّخين حرباً أهليّة بامتياز. فرغمَ وجود فئةٍ مُعارضةٍ لحكم بريطانيا وراغبةٍ في الاستقلال عنه، إلا أنّ قطاعاتٍ واسعة من سكّان تلك المستعمرات كانت مواليةً للتاج البريطاني ومعارضةً للعمل المسلّح ضدّه. وأذكرُ أنّ آخرَ تقدير قرأتُهُ عن نسبة المؤيدين للثورة الأميركية حينها كان للمؤلّفِ الأميركي المرموق ريك آتكينسين في كتابه الشهير “أتاكم البريطانيّون” حيث قدّرهم ب ٣٠ بالمائة تقريباً، وهو القول المطابق لقول الرئيس الأميركي السابق جون آدامز—الذي كان أحد قادة الثورة— حين سُئِلَ عن عددهم، فأجاب بأنّ”الوطنيين الغيورين” كانوا ٣٠٪ تقريباً.
هل تعرفون معنى ذلك؟ معنى ذلك أن الأغلبيّة السّاحقة لسكّان المستعمرات كانت إمّا معارضة للثورة (٣٠٪ تقريباً حاربوا مع التّاج البريطاني) أو محايدة على أقلّ تقدير (٤٠٪).الأهمّ من ذلك هو السّياسةُ التي انتهجها الثوّارُ االأميركيون مع من خالفهم من أبناء جلدتهم، فقد نكّلوا بالموالين (وبالمحايدين حتّى) على نطاق واسع بالسَّجْنِ في قوارب شحن صغيرة في نهر الهدسون في ظروف شبّهها الكُتّاب المعاصرون بالظروف المريعة في سجن “أبو غريب”، وبمهاجمة وحرق منازلهم، ومصادرة أموالهم، وبعقوبات كان أبسطها ما كان يُعرف حينها بال—
tarring and feathering — حين كان يُؤتى بأحدهم أمام العامّة ليُعذّبَ فتُنْزَعَ عنه ثيابه، ثم يُغمس في القَطِران الحارّ، أو يُطلى به جسده، ويُرمى بعدها في كومة من الريش ليلتصق الريشُ بالقطران وبجلده— وأشدّها— ما دونَ القتل— هو إنزالهم بالحبال إلى كهوف ضيّقة في مناجم الفحم حيث كان المائة نَفَر يُحتجزون في بطن الأرض في مكان شديد الضيق لا ضياء فيه ولا هواء (وبوسعكم زيارة سجن Old New Gate Prison في ولاية كُونِّكتِكِت الذي صار متحفاً اليوم للاطلاع على جانبٍ من ذلك. وحقيقةً— ورغم إعجابي الشديد بالثورة الأميركيّة وبحذاقة الآباء المؤسّسين— فقد راعني في معرض دراستي لتلك الحقبة ما طالعتهُ عن حجم البطش الذي أنزلهُ الثوّارُ بأبناء جلدتهم الموالين لبريطانيا ممّا لم يأتِ الثوّار السوريّون ب ١٠٪ منه.