تشهد مدينة إدلب وريفها، شمال غربي البلاد، حالة من التفاوت الطبقي غير المسبوقة، حيث تتلاشى باستمرار الطبقة المتوسطة، مع تزايد الطبقة الفقيرة إلى حد بعيد وارتفاع معدلات الفقر، وتزايد الصعوبات الاقتصادية التي تواجه السكان.
وقد نشأت خلال السنوات الأخيرة طبقة من الأغنياء الجديد، ممن استطاعوا تكوين ثروات خلال الحرب، ورغم كونهم أقلية، فإنهم يستأثرون بمعظم الأعمال والثروات والمشاريع في المنطقة.
وأمام هذا الوضع تضمحل المشاريع المتوسطة والصغيرة، حيث يحتاج الراغبون بالعمل إلى تكاليف متزايدة، وقدرات كبيرة من أجل الاستمرار ومقاومة التيار الجارف، مع وجود أحوات كما يسميهم البعض في المحافظة يسيطرون على مختلف القطاعات، برؤوس أموال كبيرة؛ لا يستطيع صغار ومتوسطو القدرة الاستمرار أمامها.
وبات على الراغبين في البدء بأي مشروع امتلاك رأس مال كبير، حتى يستطيعوا المنافسة في جو من التفاوت الطبقي مع غياب تام للدعم الذي يمكن أن تقدمه الحكومة القائمة، حيث تنتشر المطاعم الفخمة والمجهزة بالديكورات والإنشاءات الممتازة.
وتتزايد أعداد المجمعات التجارية والمحال الفخمة والكبيرة، بأسعار إيجارات عالية للمحال في المواقع الجيدة، بشكل محموم وغير مسبوق يجعل من المستحيل على صغار المستثمرين الصمود، ويحصر العمل في أيدي قلة قليلة فقط من أصحاب المال.
يقول أبو محمد وهو نازح من ريف إدلب الشرقي يسكن بمدينة إدلب، لحلب اليوم، أن الصعوبات التي تواجهه لمزاولة مهنته في صناعة البوظة تتزايد يوما بعد يوم، حيث يقول إنه بحاجة إلى رأس مال كبير في حال قرر الإقدام على افتتاح محل جيد، وفي موقع جيد، حيث توضَع شروط صعبة للإيجار وبدل إيجار كبير، بينما لا تتوافر الشروط المطلوبة في بعض المحال.
ويذكر على سبيل المثال ان احد الاشخاص قام باستئجار محل، و دفع بدل ايجار كبير يتخطى الالف وخمس مئة دولار للشهر الواحد، مع تكفل المستأجر بعمل ديكور ممتاز ومكلف، على حسابه الشخصي ضمن عقد يمتد لخمسة سنوات، وهذا يعني ان المستأجر سوف يدفع نحو خمسة الاف دولار، كلفة للديكور على ان يبقى لصاحب المحل وعليه ان يدفع الف وخمس مئة دولار شهريا مع تحمل بقاء المحل معطلا لمدة تتراوح بين الشهر والشهرين ريثما يتم تجهيزه.
ويضيف ابو محمد ان على الراغب في افتتاح محل جيد في موقع جيد ان يكون لديه رأس مال كبير حتى يستطيع المقاومة والصمود ريثما يثبت اقدامه في السوق.
ويوكد الرجل انه لم يكن يجد تلك الصعوبات عندما كان في بلدته قبل النزوح فضلا عن ان هذه الحالة من التفاوت الطبقي لم تكن موجودة، ويستدرك قائلا: “ربما يكون هناك اختلاف طبيعي في المقدرات بين الاشخاص.. هناك من لديه رأس مال كبير وهناك من لديه رأس مال صغير.. لكن الاوضاع اليوم تزداد تعقيدا وصعوبة في إدلب وريفها بسبب الحالة غير المسبوقة من تكدس رؤوس الاموال في ايدي اشخاص معينين”.
ومع انتشار المحال و المطاعم الفخمة المجهزة بتجهيزات غالية مكلفة، والمطاعم المتخصصة في الشوكولاتة والمرطبات وبعض اصناف الطعام السريع وغير ذلك، اصبح من الصعب جدا على من يرغب بافتتاح مطعم شعبي او متواضع او متوسط الحال الصمود و الاستمرار، حيث ان الشروط التي يضعها اصحاب المحال تزداد صعوبة وتعقيدا يوما بعد يوم.
ويزداد بدل الايجارات في الارتفاع ما يعني ان على الراغب في العمل اما اللجوء الى محل في موقع غير مناسب وبالتالي فانه قد يواجه الخسارة او ان عليه اذا اراد العمل في موقع جيد او استئجار محل جيد من حيث المساحة والاطلالة والديكور والتجهيز؛ فان عليه ايضا ان يدفع مبلغا كبيرا، وفي كلتا الحالتين فان الامور صعبة جدا.
يقول الشاب “احمد س” وهو مهجر من ريف ادلب الجنوبي، ويقطن في احدى البلدات غربي المحافظة، انه منذ انطلاقه في محاولة إنشاء مشروع جديد في مجال توزيع الادوية، يواجه معضلة كبيرة، وهي وجود شركات وموزعين يعملون برأس مال ضخم جدا بمئات ألوف الدولارات أو قد يصل الى الملايين.
وبالتالي – يضيف أحمد – فانه مهما كافح او حاول الاستمرار في العمل بالتوزيع، فلن يجد املا في الصمود امام من يصفهم بالاحوات في هذا المجال، ويقول ان هذا الامر لا يقتصر على مجال الادوية ومستودعاتها، وانه تقريبا في كل مجال بات هناك رؤوس كبيرة تسيطر عليه، وهم غالبا اما محسوبون على او من المقربين منها او ربما ينتمون اليها.
يشعر “محمود ع” بالحنق والغضب حيث يقول انه كان يتعيش من العمل على بسطة في السوق وكان يجد قوت يومه قبل ان تتدخل البلدية وتجبره على الجلاء من المكان، حيث لم يعد باستطاعته العمل كما كان سابقا، فيما بقي اصحاب المحلات ممن لديهم رؤوس اموال في اماكنهم يعملون في البيع والشراء.
ووجد محمود نفسه مسحوقا غير قادر على العمل، واضطر الى التحول لعامل مياومة، حيث يقبض اجورا زهيدة لا تكفيه لسد رمقه هو وعائلته.
ويقول انه ربما من الطبيعي ان يكون هناك تفاوت طبقي وان هذا الامر موجود في كل مكان وزمان، ولكن المنطقة تشهد حالة غير مسبوقة، حيث يؤكد اننا لم نعش هذه الاوضاع سابقا، وان الامور تتجه نحو مزيد من التفاوت، حيث ينزل المزيد من السكان باستمرار الى قاع الفقر وتتزايد الاموال في ايدي اشخاص معينين وفئات معينة.
ويؤكد منسقو استجابة سوريا في تقارير سابقة ان معدلات الفقر تتزايد وان المزيد من العائلات منطقة شمال غرب سوريا، تهوي الى قاع الفقر شهريا وان المصاريف في ارتفاع مستمر كما حددت ارتفاعا في حد الفقر والجوع في تقرير نشرتهم منذ عدة ايام.
وامام هذا الواقع فانه لا مكان للمشاريع الصغيرة، كما ان المتوسطة تعاني صعوبات جمة.
يروي الشاب “حسان م” لحلب اليوم عن معاناته عندما اراد افتتاح مشروع صغير يتناسب مع قدراته البسيطة، حيث عمل محلا للقهوة (برس) لكنه لم يستطع الايفاء بالتكاليف، ورغم صموده ومحاولته الاستمرار لما يقرب من العام الا انه اضطر لتصفية محله، مع تكبده للخسائر في النهاية.
ويقول انه اليوم يفكر في السفر لا يجد املا في الاستمرار على هذا الوضع، أما عن اسباب خسارته فقد اوضح حسان انه كان بحاجة الى مقدرات لافتتاح محل في موقع جيد ولتزويده بالديكورات المناسبة ولشراء الات جيدة ولجذب الزبائن، حيث تم افتتاح عدة محال كبيرة في المنطقة مؤخرا، وهي مزودة بالتجهيزات المكلفة، ويشرح ان عليه اي يصنع اكثر من سبعين فنجانا في اليوم حتى يستطيع الايفاء بالتكاليف فقط، فلديه عامل يساعده وهناك ايجار المحل المرتفع، وهناك مصاريف وصيانة وكهرباء والى ما هنالك من تكاليف.
ويعرب الشاب عن استيائه من هذه الاوضاع، حيث يرى انه لم يعد بامكانه الاستمرار، متسائلا كيف له ان يكون نفسه في هكذا اوضاع؟ ويقول انه لم يعد امامه الا اللجوء الى اوروبا، الا ان ذلك ايضا يحتاج الى رأس مال وتكاليف كثيرة.