فراس علاوي
لعل معظم أجيال النصف الثاني من القرن الماضي، ممن عاصروا بداية التلفزيون في سوريا سواء كانوا من السوريين أو العرب، يتذكرون هذه الافتتاحية الشهيرة، للفنان نهاد قلعي المعروف باسم حسني البورظان في المسلسل الكوميدي الشهير صح النوم، والتي كان يجسد فيها دور صحفي يرغب بالحصول على قليل من الوقت لكتابة مقاله الصحفي الذي لم ينته بسبب المُناكفات التي كانت تحصل خلال سياق المسلسل والتي يقول فيها “إذا أردنا أن نعرف ماذا في ايطاليا علينا أن نعرف ماذا في البرازيل“، لسنا هنا بسياق تحليل المسلسل ونقده، لكن هذه العبارة أثارت كثيراً من المقالات وأصبحت افتتاحية لكثير منها في مختلف أشكال المقال الصحفي السياسي والاقتصادي والثقافي، إذ لم تكن العبارة التي كتبها نهاد قلعي اعتباطية، أو مجرد عبارة كوميدية رددها كثيراً خلال حلقات المسلسل، وإنما كانت استقراء ذكي لمرحلة جديدة في العالم، الذي كان خلالها مازال يتعافى من الحرب العالمية الثانية، ومع بداية تشكل محاور جديدة واستقطابات عالمية، تجعل فعلياً ما يحدث في بلد مرتبطاً بحدوث أمر ما في بلد آخر، وهذا ما حصل لاحقاً في ما أطلق عليه الحرب الباردة، والتي استمرت لعقود بين الدولتين الأعظم على وجه الكرة الأرضية (الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي)، حيث كان ما يحصل في موسكو أو واشنطن يفرض متغيرات وأحداث في عشرات العواصم والمدن الأخرى، نتيجة الاستقطاب الدولي الحاد حينها بين معسكرين غربي وشرقي.
بالعودة لعنوان المقال إذا أردنا أن نعرف ماذا يحدث في الضاحية علينا أن نعرف ماذا يحدث في طهران؟
ارتبط اسم الضاحية الجنوبية في العاصمة اللبنانية بيروت، بأنها معقل حزب الله اللبناني ذراع إيران في المنطقة العربية منذ نشأته بداية ثمانينات القرن الماضي، والذي كان بوابة إيران لدخول لبنان والعالم والعربي ومن ثم استخدام القضية الفلسطينية كحصان طروادة للدخول للعمق العربي، لم يخف حزب الله على مدى عقود تبعيته لطهران، ولم تخف السلطات الإيرانية دعمها للحزب، ومع تغير المعطيات الدولية وتوازن القوى الإقليمية كان الدعم الإيراني للحزب واضحاً ومتزايداً، حتى وصل لشكله الحالي والذي سيطر فيه الحزب على قرار لبنان بشكل كامل وتحول إلى مقولة أنا الدولة، بعد أن كان دولة داخل الدولة.
منذ 7 اكتوبر 2023 وبداية هجوم حماس والرد الإسرائيلي العنيف على غزة واستمرار الحرب فيها حتى اللحظة، والانظار تتجه إلى لبنان حيث حزب الله ذراع إيران وحليف حماس والنظام السوري، فيما أطلق عليه وحدة الساحات والتي تعني تنسيق القوى المحلية والاقليمية فيما بينها تحت مظلة القرار الإيراني، وتعاونها فيما يتعلق بالقضايا الاقليمية خاصة العلاقة مع إسرائيل، الغريب في هذا المصطلح أنه يشكل تعاون وتنسيق من نوع آخر فهو تعاون بين دولة كبيرة في الشرق الأوسط هي إيران، مع قوى محلية ما دون مستوى الدولة في العراق حيث الحشد الشعبي وما سمي فصائل المقاومة الاسلامية، ولبنان حيث حزب الله اللبناني، واليمن حيث الحوثي، وسوريا حيث نظام الأسد الذي أصبح بعد العام 2011 لا يمثل الدولة في سوريا وإنما أحد القوى المتنازعة فيها.
لم تثبت نظرية وحدة الساحات صحتها، ولم تتفعل تلك الساحات خلال الحرب، بل على العكس شعر أهالي غزة بخذلان حلفائهم المفترضين، لاحقاً بدأت تلك الأدوات باستثناء النظام السوري، الذي حافظ على موقف واحد وهو الصمت وعدم الدخول في تصعيد عسكري أو حتى سياسي وإعلامي، ربما هو يبحث عن ثمن لاحق لهذا الصمت، إذ يدرك النظام السوري أن انخراطه في هذه الحرب وفتح جبهة الجولان ولو نظرياً ستكون نهايته الحتمية، لذلك عمل على المناورة ما بين الموقف من كونه أداة إيرانية وما بين الموقف الروسي الراغب بعدم التصعيد مع إسرائيل في سوريا.
على عكس موقف نظام الأسد، بدأت أدوات إيران الأخرى تصعيداً منضبطاً في اليمن، إذ بدأ الحوثيون بمهاجمة السفن في البحر الأحمر وبشكل متصاعد، فيما دخلت الفصائل العراقية ضمن منطقة الاشتباك عبر استهدافها مواقع إسرائيلية أو أمريكية في سوريا ومن سوريا بالطيران المسير غالباً.
حزب الله اللبناني والذي قضى الأشهر الأولى في اشتباك منضبط مع إسرائيل ولم يتجاوز حدود الاستهداف غير المؤثر لمناطق فارغة أو غير مؤثرة، وبعد الاستهداف الإسرائيلي للداخل الإيراني، بعد اغتيال إسرائيل عدداً من القادة الإيرانيين في سوريا ولبنان، والرد الإيراني الذي لم يرقَ لمستوى الرد الحقيقي بل توقف عند كونه إعلامياً لحفظ ماء الوجه، ولم تُحدث الصواريخ والمسيرات الإيرانية أي ضرر مؤلم في إسرائيل.
بعدها كان لزاماً على إيران تنشيط جبهة الجنوب اللبناني لعدة أسباب أهمها:
1- زيادة الضغط على إسرائيل وبالتالي زيادة حمولة التفاوض معها لاحقاً من أجل الحصول على مكاسب سياسية لإيران وليست للفلسطينيين كما يسوق البعض.
2- رفع الحرج عن حزب الله وإيران بعد اكتشاف قادة حماس وفلسطينيي غزة أنها خذلتهم ولم توسع نطاق الحرب كما كان متوقعاً.
3- تعزيز مكاسب حزب الله في لبنان بعد تراجع دوره والهجوم الذي يتعرض له داخلياً وعربياً، بعد ما جرى ويجري من تعطيل الحياة السياسية في لبنان، ومصادرة قرار الدولة لمصلحة الحزب.
4- محاولة جر إسرائيل لصراعٍ محدود مستفيدة من الخلافات الإسرائيلية مع إدارة بايدن ورغبتها في عدم توسيع نطاق الحرب، وبالتالي الاستفادة من هذا الضغط للعودة للمفاوضات الإيرانية الأمريكية حول الملف النووي الإيراني، خوفاً من عودة ترمب للبيت الأبيض وبالتالي القضاء على أي أمل بالوصول لاتفاق جديد بين الطرفين.
الرد الإسرائيلي كان واضحاً على تصعيد الحزب وذلك من خلال استهداف بنيته التحتية اللوجستية والعسكرية، واغتيال قياداته الأمنية والعسكرية.
الاستراتيجية الإسرائيلية تقوم حتى اللحظة على إضعاف الحزب والضغط عليه لتحقيق أهدافها، وهي إبعاد الحزب إلى ما بعد حدود الليطاني من جهة ونزع قوته العسكرية والأمنية، وايجاد مسافة آمنة للمستوطنات قرب الحدود الشمالية، وتعويض الرأي العام الإسرائيلي بنصر في الشمال يمحي به الصورة الهزيلة التي ظهرت فيها إدارة نتنياهو في حرب غزة.
إسرائيل حتى اللحظة نجحت في اغتيال عدد كبير من قادةً أمنيين وعسكريين كباراً في حزب الله، مع استثناء واضح للقادة السياسيين، ما يدل على أنها لا تستهدف القضاء على الحزب وإنما إضعاف جناحه العسكري من جهة، وإيصال رسالة واضحة عن الخرق الأمني والاستخباراتي الواضح وضعف الحزب في حماية قياداته، وكذلك تحجيم نفوذ الحزب داخلياً والضغط على إيران عبر إضعاف أهم أذرعها في المنطقة.
ماذا يحدث في طهران؟
يدرك الإيرانيون الذين خسروا رئيسهم ووزير خارجيتهم في ظروف غامضة لم يكشف عنها حتى اللحظة، أن نتنياهو جاد في التصعيد ضد حزب الله، وأن المسألة هي مسألة وقت، لذلك جاء القرار الإيراني والأوامر لحزب الله بالتصعيد في خطوة استباقية لعلها تحدث مفعولاً عكسياً، في ظل حرص أمريكي أوربي (فرنسي بشكل خاص) على عدم توسيع نطاق الحرب، وهو ما تراهن عليه إيران وبالتالي حزب الله.
لذلك فإن تغير الاستراتيجية الإيرانية تتجه للتضحية بالأذرع من أجل تحقيق مكاسب سياسية، وتأتي هذه التضحية من خلال زج هذه الأذرع في صراع مع إسرائيل والولايات المتحدة، وذلك استباقاً لاحتمالية وصول ترمب للبيت الأبيض وبالتالي تغير قواعد الصراع، مع تبريد جبهات عالمية مشتعلة كما يردد في حملته الانتخابية.
إيران التي تقف على حافة انتخابات رئاسية مبكرة، وسط عقوبات واقتصاد متهالك، باتت تبحث عن تحقيق مكاسب سياسية تدعم مواقفها، حتى لو كان ذلك على حساب توريط أذرعها في المنطقة، واستقبال الضربة الأولى ومن ثم الذهاب إلى طاولة المفاوضات وتقديم تنازلات سياسية لا تفضي بسقوط النظام في إيران، وإنما في تحجيمه وضمان حدود نفوذه، والتي تسعى إيران إلى عدم تراجعها بشكل كبير.
وبالتالي فإن المتوقع في ظل هذه المتغيرات هو عدم الذهاب لحرب مفتوحة بين الطرفين، وإنما الاكتفاء بعمليات نوعية ودقيقة تدمر بنية الحزب التحتية العسكرية واللوجستية وحتى المدنية والاقتصادية، وقد تفضي هذه المرة لاستهداف قيادات سياسية من الصف الأول، وحصر هذه العمليات في المنطقة التي ترغب اسرائيل بانسحاب حزب الله منها لعمق معين، فليس من مصلحة إسرائيل إسقاط الدولة اللبنانية بشكل نهائي، وهذا هو سبب طلب تل أبيب من الولايات المتحدة أسلحة ذات قدرة تدميرية عالية، الهدف منها إيجاد منطقة عازلة خالية من الحزب وقاعدته الشعبية، وإبعاده إلى ما خلف حدود نهر الليطاني وهو ما يدركه الحزب ويناور من أجل عدم حصوله.
الأسابيع القادمة تحدد كيفية التصعيد وضوابطه وحدوده، وما هي التنازلات السياسية التي ستقدمها إيران من أجل الحفاظ على مكتسباتها في المنطقة، وإبقاء الحد الأدنى من نفوذ وقوة أذرعها التي خاضت المعارك بالنيابة عن إيران، خاصة في البحر الأحمر وجنوبي لبنان.