د. علي محمد الصلابي داعية ومفكر ومؤرخ والأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
إن للصوم مقاصد عظيمة، غايتها تقوية الإيمان وتهذيب النفوس وتقويم السلوك والأخلاق، وإن من مقاصد الصوم تربية المسلم على الإخلاص، الذي يصح على أساسه إيمان العبد وعلى مداره تقبل الأعمال، وفي الصوم يتجلى الإخلاص في مطالبة العبد بالنية في رمضان وهو شرط أساسي للصيام؛ فعن حفصة (رضي الله عنها) قالت: قال النبي ﷺ: ((من لم يبيت الصيام من الليل فلا صيام له)) [صححه الألباني].
وإن تجريد نيتك لله، وتوحيد وجهتك إلى الله لتحقيق عبوديتك له، ابتغاء مرضاته وإرادة لثوابه (عز وجل)، كلها معانٍ تدل على الإخلاص المشترط في الأعمال، فالإخلاص كلمة عظيمة ومعنى كبير لا يُقبل العمل بدونه، بل يشترط في كل عمل أن يكون قائماً على الإخلاص والاتباع، فقد قال تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾ [الملك :2]، قال ابن عياض في معنى (أحسن عملاً): أخلصه وأصوبه، فإن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل، حتى يكون خالصاً صواباً والخالص إذا كان لله (عز وجل).
فلا بد من توجيه إرادتنا في العمل نحو الإخلاص لله تعالى بنية التقرب إليه واحتساب الأجر عليه، فإرادة الله والدار الآخرة، هي أجل أعمال القلوب، كما أن إرادة غير الله، هي أقبح أعمال القلوب، قال تعالى: ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخرة من نصيب﴾ [الشورى:20] (1). هذا وإن للصيام أثراً عظيماً في تربية النفوس على فضيلة الإخلاص، وألا يراعى في الأعمال غير وجه الله (جل وعلا)، ذلكم أن الصائم يصوم إيماناً واحتساباً، ويدع شهوته وطعامه وشرابه من أجل الله تعالى، فهكذا يربينا الصوم على فضيلة الإخلاص، فالصوم عبادة خفية، وسر بين العبد وربه، ولهذا قال بعض العلماء: الصوم لا يدخله الرياء بمجرد فعله، وإنما يدخله الرياء من جهة الإخبار عنه، بخلاف بقية الأعمال؛ فإن الرياء قد يدخلها بمجرد فعلها، ولا ريب أن الإخلاص من أعظم الخصال وأحمد الخلال.
ثم إن للإخلاص آثاره العظيمة على الأفراد خاصة، وعلى الأمة عامة، فللإخلاص تأثير عظيم في تيسير الأمور، فمن تعرقلت أموره، وتضايقت عليه مقاصده، فليعلم أنه بذنبه أصيب، وبقلة إخلاصه عوقب، وكذلك هو الذي يجعل في عزم الرجل متانة، ويربط على قلبه؛ فيمضي في عمله إلى أن يبلغ الغاية، وكثير من العقبات التي تقوم دون بعض المشروعات لا يساعدك على العمل لتذليلها إلا الإخلاص.
وإذا أخلص المسلم صيامه الله، وقام به على الوجه الذي يرضي الله كان ذلك دافعاً له لأن يخلص الله في شتى أموره وكافة أحواله وسائر أيامه ، فَرَبُّ رمضان هو ربُّ سائر الشهور، والذي فرض الصيام هو الذي فرض غيره من سائر الطاعات والقربات. والإخلاص الذي يقوم على الإيمان الصادق هو الذي يسمو سلطانه على كل سلطان، ويبلغ أن يكون مبدأ راسخاً تصدر عنه الأعمال الصالحة.
ولا تظن أن الإخلاص أمر هين، فإن معول الأعمال عليه، ومصائر العباد راجعة إليه، فمن عالج النية نجا، ومن تعجلها لدنياه هلك، قال سهل التستري : ليس على النفس شيء أشق من الإخلاص، لأن النفس ليس لها فيه نصيب، ولن يكون الجزاء فيه إلا على قدر النية والاحتساب، وهما عين الإخلاص، فالصيام والقيام وإحياء ليلة القدر وتلاوة القرآن وغير ذلك من أمر الدين، يشترط فيه هذا الإخلاص وذلك الاحتساب: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ [ البيئة:5]، وقد قال رسول الله ﷺ عن صيام رمضان: ((من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)) [أخرجه البخاري (2009)] (2).
فالإخلاص في رمضان من أهم القيم الأخلاقية التي حث عليها الشارع الحكيم؛ لأن العمل بلا إخلاص لا قيمة له عند الله؛ لذا كان الإخلاص في القول والعمل شرطاً لقبول الأعمال عنده سبحانه، والإخلاص هو حقيقة العبادة وروحها، ولب الدين، ومفتاح دعوة الرسل، ودرة القلوب، وسلعة المتقين، وغنيمة المخبتين، وتجارة العلماء الربانيين والعباد الزاهدين، فاحرص على حراسة عبادتك وطاعتك، ونقها من الرياء والعجب ومراقبة الخلق، فكل ما لا يراد به وجه الله (عز وجل) يضمحل.
المراجع:
- روح الصيام ومعانيه، عبد العزيز بن مصطفى كامل، (مجلة البيان، الرياض)، الطبعة الثالثة 2007، ص 23 ـ 27.
- . رمضان دروس وعبر، محمد بن ابراهيم الحمد، (دار ابن خزيمة)، الطبعة الأولى: 2018، ص 60 ـ 67.