خاص | حلب اليوم
أثارت قضية انشقاق “جهاد عيسى الشيخ” (أبو أحمد زكور)، عن هيئة تحرير الشام الكثير من الجدل في أوساط السوريين شمال غربي البلاد، والتي سبقها اعتقال أبو ماريا القحطاني وما نتج عنه من توترات داخل الهيئة، حيث ترجح مصادر وجود ارتباط بين الملفين.
وبغض النظر عن تفاصيل القضية؛ فقد برز سؤال حول مدى ثبات البنية الداخلية لهيئة تحرير الشام، مع التغيرات الكثيرة التي مرت بها منذ انطلاقها كفرع لتنظيم القاعدة في سوريا عام 2012، والتطورات التي أوصلتها إلى الشكل الحالي، والصراعات الواسعة بينها وبين باقي الفصائل، والصراعات الداخلية ضمنها والتي يطفو منها على السطح بعض اﻷخبار، والانشقاقات المتتالية التي تعرضت لها مؤخراً.
مصدر من داخل الجيش الوطني السوري في ريف حلب – رفض الكشف عن اسمه – أكد لـ”حلب اليوم” أن الصراعات ومحاولات الانشقاق داخل صفوف هيئة تحرير الشام “أمر يحدث دائماً” ولكن يتم تلافيه في كل مرة، دون أن يخرج للعلن، وما نراه من أحداث تصل إلى اﻹعلام لا يوضح الصورة كاملةً.
وحول اﻷسباب الحقيقية وراء محاولة أبو محمد الجولاني قائد هيئة تحرير الشام اعتقال مقربين منه بشكل متكرر، فقد أكد المصدر أن القضية واضحة تماماً فهو “الصراع على السلطة وتقاسم النفوذ ضمن الهيئة”، حيث يقوم الجولاني كل فترة “بتغيير الكادر الخاص به كلما أحس بخطر قيادي ما، وقد بدأ مؤخراً بأبي ماريا ولما أراد الانتقال لزكور حصل ما حصل”.
يشير الصحفي السوري عقيل الحسين المتابع للملف إلى رأي قريب من ذلك، حيث يقول إن اﻷسباب الحقيقية وراء محاولة الجولاني اعتقال مقربين منه بشكل متكرر، هي رغبته بالحفاظ على قيادة مركزية واحدة يهيمن عليها بشكل كامل وحرصه على إبعاد المنافسين الذين يمكن أن يشكلو ضده خطراً في أي وقت.
وأضاف الحسين: “كلما تضخمت قوة أي شخص أو كتلة داخل هيئة تحرير الشام تتم تصفيتهم بطرق متشابهة غالباً ماتكون اتهامات بالفساد او الاتصالات الخارجية أو التآمر على الجماعة وما إلى ذلك”.
ما قصة التخابر والاتصالات الخارجية؟
يستخدم الجولاني عادة تُهمتين أساسيتين ضدّ خصومه وهما “الفساد المالي”، و”التخابر مع التحالف”، وقد نفى زكور ذلك معتبراً أن التهمة اﻷخيرة لا يجب أن توجه له بل ألمح إلى اتهام الجولاني بذلك.
يؤكد المصدر نفسه لـ”حلب اليوم” أن “القحطاني وزكور يشكون منذ زمن من تعالي نفوذ كتل وقيادات معينة على حساب كتل أخرى، ويبدو أنهم كانوا يخططون بالفعل لانقلاب، ويبدو أنهم تواصلوا مع جهات معينة واكتشف الجولاني هذا الأمر وأراد تطويقه”.
لكن “موضوع التواصل مع جهات أجنبية مستبعد (الفكرة مبنية على تحليل ومعلومات كما يقول المصدر) لأن تواصلات أبي ماريا لم تكن مخفية عن الجولاني وهو نفسه لديه تواصلات كثيرة مع كل الجهات الخارجية و’لا يغلق بابه دون أحد أبداً’، ولكن استشعاره لخطر أبي ماريا هو ما جعله يوجه له هذه التهم”.
ويرى المصدر أن “تلك الاتهامات وإن كانت صحيحة فهي ليست المشكلة أصلا وإنما أراد الجولاني تطويقه قبل استفحال خطره وانقلابه”.
ويرى عقيل من جانبه أن جوهر القضية هو “شعور البعض داخل قيادة هيئة تحرير الشام أنهم باتوا مهمشين ولا يأخذون دورهم المفترض بناءً على إمكاناتهم و”تضحياتهم” فيما تتقدم جهات أخرى يرون أنها لا تستحق الوصول إلى الواجهة على الأقل مقارنةً بهم”.
ويولّد هذا الواقع ضغوطاً داخل الكادر القيادي “تدفع الجهات الممتعضة إلى محاولة تحسين موقعها وربما التفكير بالفعل بالانقلاب كما هو واضح من خلال الوثائق والتحقيقات والتسريبات التي انتشرت بخصوص قضية أبي ماريا القحطاني وأبي أحمد زكور”.
ما موقف تركيا من كل ما يجري؟
لا يزال الموقف التركي من الحالة الفصائلية والصراعات المتتالية في شمال غربي سوريا غير واضح، فمنذ دخولها المباشر بقواتها العسكرية، لم تحسم اﻷوضاع ميدانيا، ولم تُعد ترتيب أوراق المنطقة التي باتت مسؤولة عنها بشكل مباشر.
ومع التقدم في مسار “أستانا” طالب الروس تركيا مراراً بتفكيك هيئة تحرير الشام، ورغم أن أنقرة تعتبرها منظمة “إرهابية” لكنها تقف – ظاهرياً على اﻷقل – موقف الحياد تجاهها.
وخلال اﻷحداث اﻷخيرة لم تبدِ تركيا أي ردود فعل على المستوى الرسمي، لكن قواتها تدخلت في منع اعتقال زكور في ريف حلب، مما يزيد الغموض حول نظرتها للملف الشائك.
ويعتبر عقيل أن “الحكم على الموقف التركي معقد”، فهي “بشكل عام وظاهرياً تبدو وكأنها لا تتدخل وتكتفي بالمراقبة حتى تتعامل في النهاية مع “رأس” واحد”، على حد وصفه، لكنها “في الحقيقية تتدخل بشكل غير مباشر في هذا الصراع”.
ولا يستبعد عقيل أن يكون لأنقرة دور في “الكشف عن معلومات تتعلق بالاتصالات الخارجية والترتيبات التي كان يعدها كل من أبو أحمد زكور أو أبو ماريا القحطاني سواء بخصوص التواصل مع التحالف الدولي أو محاولات الانقلاب أو الاستفادة من الاتصالات التي أجروها خلال العامين الماضيين مع قادة من الشمال ﻹقامة “إمارة” أو منطقة خاصة بهم للانفصال عن هيئة تحرير الشام”.
ماهي التوقعات للمرحلة المقبلة؟
يقول المصدر من داخل الجيش الوطني إنه متأكد من استمرار الصراعات والانشقاقات داخل الهيئة، “خصوصاً مع استشعار عدد كبير من القيادات أنهم لا يتمتعون بأي حصانة، ففي أي لحظة يمكن أن توجه لهم أية تهمة وتُستباح دماؤهم أو يُلقو في السجن دون مقدمات ولذلك فإنهم سيسعون للخروح من الهيئة إذا وجدوا مأمنا”.
في المقابل يُرجح المصدر أن يزيد الجولاني من خطواته الاحترازية ويسعى لتطويق تلك المحاولات، فإدلب اﻵن “تعيش رهن خلاف كبير داخل هيئة تحرير الشام”.
لكن الصحفي السوري المتابع للملف يتوقع أن “تتجاوز هيئة تحرير الشام اﻷزمة الحالية وأن لا تؤثر عليها على المدى المنظور”، مستدلاً على ذلك بأن “أيا من الكتل التي كان يعتمد عليها المنشقون للتحرك من أجلهم في حال اعتقالهم لم تتحرك”.
وأضاف موضحاً أن “كتلة الشرقية لم تتحرك من أجل أبو ماريا المحسوب عليها، وكذلك كتلة حلب لم تبد أي انفعال تجاه ما جرى مع أبو زكور”، لذا فإن “الهيئة مستقرة وبل ومستمرة في محاولات التمدد باتجاه الشمال”.
ويمضي عقيل مؤكداً أن هيئة تحرير الشام سبق أن “تجاوزت مطبات أخطر من هذا المطب بكثير، مثل انشقاقها عن تنظيم الدولة عام 2013 والذي كانت تواجه معه خطراً وجودياً حقيقياً.. أيضا عندما فكت ارتباطها بتنظيم القاعدة عام 2016 واجهت خطراً كبيراً طرح أسئلة عن إمكانية استمرارها وتجاوزته كما حدثت انشقاقات عدة داخلها لكنها استمرت”.
وفي النهاية يبدو الجولاني – على اﻷقل حتى اليوم – ممسكاً بكافة اﻷوراق، كما أن طريقته “البراغماتية” التي جنبته الصدام مع تركيا والولايات المتحدة والتحالف، مكنته من التماهي مع كافة الظروف واﻷوضاع التي عصفت بالشمال الغربي.