عبد الله عتر
أحد المحكات الحاسمة لامتحان الحريات هو قدرتها على إنشاء فضاء خاص لصاحبها.. في كل نوع من أنواع الحريات (السياسية والاقتصادية والأسرية..) يجب أن يكون هناك مساحة معينة تضمن خصوصية لصاحبها..
والمحك المعاكس للحرية الفردية أن يغدو الفضاء الخاص شأناً عمومياً متاحاً للعموم أن يطلعوا عليه أو يتدخلوا فيه..
كيف تعمل الحرية على تشكيل وبناء الفضاءات الخاصة؟
من خلال أدوات ووسائل حقوقية وواقعية تضع أسواراً أمام الآخرين..
مثلاً تقوم الحرية الاقتصادية بإنشاء فضاء اقتصادي خاص للفرد لا يشاركه فيه غيره، يتم إنشاء هذا الفضاء من خلال وسائل وأدوات اقتصادية متعددة أهمها الملكية الخاصة التي تمنح صاحبها حرية التصرف المالي.
لولا الملكية الخاصة لصارت أملاك الشخص شأناً عمومياً متاحاً للعموم والدولة أن تتدخل فيه، فالجسد الاقتصادي للفرد يحتاج إلى فضاء خاص ليس متاحاً للعموم أن يطلعوا عليه ويتدخلوا فيه.
كذلك تقوم الحرية السياسية بإنشاء فضاء خاص للفرد في اختياره السياسي، بدونه سيكون اختياري السياسي شأناً عمومياً تمارسه الدولة أو الحزب الأوحد نيابة عني، فالوجود السياسي للفرد يحتاج إلى مساحة أو فضاء خاص ليس متاحاً للعموم، يتم إنشاء هذا الفضاء من خلال وسائل وأدوات سياسية متعددة مثل حق الفرد في اختيار من يمثله ويحكمه، وأحد الأدوات الواقعية لحرية الاختيار السياسي في عصرنا هو سرية التصويت حيث يُمنع الشخص من إجراء عملية التصويت علناً.
الآن.. كيف تعمل الحرية على بناء فضاء خاص بالجسد المادي للإنسان؟
تقوم حرية الجسد بإنشاء فضاء خاص للفرد في جسده.. لولا هذا الفضاء سيكون الجسد شأناً عمومياً متاحاً لاطلاع العموم، يتم إنشاء هذا الفضاء الخاص في الفقه الإسلامي من خلال وسائل متعددة، أبرزها اللباس وغض البصر وعقوبات المتلصص على العورات (العورات هي فضاءات الحرية الخاصة بالجسد والبيت على نحو رئيسي).
اللباس أداة رئيسية للحرية في إنشاء الفضاء الخاص بالجسد، والتعري هو الأداة الرئيسية المعادية للحرية، حيث تعمل على تمزيق الفضاء الخاص بالجسد وجعله شأناً عمومياً متاحاً أمام العموم..
ليس الكلام الآن عن مقادير اللباس بشكل تفصيلي، بل عن وجود ظاهرة لباس واضحة تحرر الجسد من سلطة العموم.. على الطرف النقيض للحرية نجد ظاهرة التعري الواضح الذي يقيد الجسد بسلطة العموم (من خلال نظرهم أو كلامهم أو تدخلهم به)
والسلطة العمومية تميل بطبيعتها نحو التدخل والإخضاع، فكلما اتسعت صفة العمومية فيها كلما زادت قوة تدخلها وإخضاعها، وبما أن اللباس هو أداة رئيسية لتحرير الجسد من سلطة العموم فإنه سيزيد كلما اتسعت سلطة العموم.
حين نظهر أمام الناس في العلن فإن قوة السلطة العمومية ومستوى تدخلها سيكون الأعلى، تعمل الحرية على بناء الفضاء الخاص بالجسد من خلال تقنية اللباس الواسع وغض البصر بشكل رئيسي، والمبدأ العام أن تكون ظاهرة اللباس حاضرة بوضوح وقوة حول الجسد، هنا نجد أحكام اللباس أمام الغرباء (غير المحارم).
الخلاصة..
ينبغي فهم أحكام اللباس ضمن معمار الشريعة ومنطقها المتماسك، وعدم اجتزاء حكم معين وكأنه كل شيء، فكما أن الملكية الخاصة أداة رئيسية للحرية الاقتصادية لا يحق حتى لصاحبها أن يتنازل عنها ويجعلها شأناً عمومياً..
فكذلك اختيار الحاكم هو أداة رئيسية للحرية السياسية فلا يحق للمواطن أن ينزع حق الاختيار السياسي من شخصه ويجعله لسلطة عمومية مطلقة..
وكذلك اختيار الزوج هو أداة رئيسية للحرية الأسرية فلا يحق للمرأة أن تجعل هذا الحق شأناً عمومياً تتولاه السلطة العمومية، وكذلك حرية الرقبة أداة رئيسية للحرية الآدمية فلا يحق لإنسان أن يبيع نفسه ويصبح عبداً مسترقاً عند أحد..
فكذلك اللباس أداة رئيسية لحرية الجسد، ولذلك لا يحق لصاحبه أن يتنازل عنه ويجعله شأناً عمومياً، كما لا يحق للشخص أن يطلق بصره متحرشاً بمن كشف جسده باختياره، لأن هذا النظر يعتدي على حرية جسد الآخر ويهتك الفضاء الخاص الذي يستحقه الجسد الحر، بغض النظر عما يفعله صاحبه فيه..
الدفاع عن التعري هو دفاع عن منطق الاسترقاق والاستبداد والملكية الشيوعية..
إذا أردنا مقاربة أحكام اللباس مقاربة حريات تنتج فضاءات خاصة، سنجد أن الأحكام في الفقه الإسلامي تتأسس على تمييز دقيق وديناميكي بين الفضاء العام والفضاء الخاص بالجسد، واللباس هنا ليس أيديولوجيا صلبة بل طريقة عملية وأداة فعالة وضعتها الشريعة لتحرير الجسد من سلطة العموم، بناء على هذا يمكننا استنباط مبدأ العلاقة الطردية بين كمية اللباس وعمومية الفضاء الذي يتحرك فيه الجسد، وذلك وفق قاعدة اللباس والحريات:
“كلما اتجهنا نحو فضاء عمومي أكثر زاد اللباس، وكلما اتجهنا نحو فضاء خصوصي أكثر قل اللباس”
انتهى النظر الفقهي الإسلامي إلى التمييز بين ثلاثة دوائر اجتماعية يتحرك فيها الجسد:
الأول: الجسد في الفضاء العمومي:
تتطلب الحرية هنا توسيع الفضاء الخاص بالجسد ووضع ضمانات عالية، لأن قوة السلطة العمومية ومستوى تدخلها سيكون الأعلى، تعمل الحرية على إنجاز ذلك من خلال تقنية اللباس الواسع وغض البصر بشكل رئيسي، والمبدأ العام أن تكون ظاهرة اللباس حاضرة بوضوح وقوة حول الجسد، هنا نجد أحكام اللباس أمام الغرباء (غير المحارم) فنجد مثلاً حجاب المرأة.
الثاني: الجسد في الفضاء الخصوصي:تتطلب الحرية هنا تقليص الفضاء الخاص بالجسد إلى أقصى درجة، لأنه ليس ثمة ههنا سلطة عمومية تتدخل، واللباس هو أداة تحمي خصوصية الجسد، وبما أنه ضمن فضاء خصوصي فلم يعد هناك حاجة للباس، وهنا نجد أحكام اللباس بين الأزواج، حيث فهم الفقهاء أن من مقاصد الزواج “أن يصير الاثنان كالواحد” كما يقول الإمام السرخسي، ونتذكر الآية القرآنية: (هن لباس لكم وأنتم لباس لهن).
الثالث: الجسد في الفضاء العمومي الخاص:
تتطلب الحرية هنا التوسط في رسم حدود الفضاء الخاص بالجسد، مثل حالة الأقرباء المحارم، فلسنا أمام فضاء عمومي مفتوح كما هي الحالة الأولى، ولسنا أمام فضاء خصوصي جداً كما هي الحالة الثانية، لذلك نجد اللباس هنا آخذ من روح الفضاءين العمومي والخصوصي، فنجد أن المرأة مثلاً لا يجب عليها الحجاب لأن هناك خصوصية كافية ناتجة عن درجة القرابة الأولى والثانية (الوالدية والأخوة والعمومة والخؤولة)، لكن يجب أن ترتدي ملابس تستر ما بين السرة والركبة لأن هناك عمومية كافية (أبناء العم والخالة..).
فاعتمد الفقه الإسلامي هنا معيار “القرابة الشديدة” ليوجد أحكام متوسطة للباس، ثم معيار “المماثلة الجنسية” ليوجد نفس النوع من الأحكام.. فالملابس الضامنة لحرية المرأة أمام الرجل الأجنبي أكثر من الملابس المطلوبة أمام امرأة أخرى، وهنا نجد أحكام لباس النساء فيما بينهن، ولباس الرجال فيما بينهم.. وهنا تدخل عوامل سيكولوجية واضحة.
بناء على هذا يمكن فهم العلاقة التي طالما أشار إليها الفقهاء في بيان لباس الحرائر والإماء أمام الغرباء في الفضاء العمومي، فالنساء الحرائر يحتجن إلى لباس أكثر (يغطي الجسد ما عدا الوجه والكفين)، والإماء يحتجن إلى لباس أقل لكن محتشم فيجوز لهن الخروج بدون حجاب الرأس مثلاً، لعل أحد الأسباب ‘والله أعلم- هو كمية الحرية التي تستدعي كمية الملابس..
الحرية كاملة عند المرأة الحرة فوجب أن تنشئ حولها فضاء خاصاً كاملاً..
العلاقة بين الحرية واللباس علاقة عريقة في الفقه الإسلامي.. وبالتالي فالعلاقة وثيقة بين الحرية والحجاب..
يبقى سؤال حول معيار تقدير حجم الملابس الضامنة لحرية الجسد؟ وما هو المحدد الدقيق الذي اعتمدته الشريعة الإسلامية لوجوب الحجاب بالنسبة للمرأة الحرة دون الاكتفاء بحدود لباس أقل قليلاً، يحتاج هذا إلى كلام مستقل..
لكن الإشارة الواضحة هنا أنه ينبغي أن ندخل للموضوع من مدخل الحرية.. فأمر الحجاب بالدرجة الأولى يتعلق بمعيار الحرية لا بمعيار الفتنة..
