مقال رأي - حسام نجار
في المشهد السياسي والاجتماعي المعاصر، تكثُر الأفكار وتكثُر التيارات ولكل منها مبرراتها و أسبابها وتعتمد لترويج فكرتها على أرقام و وقائع و دلائل ، غير أن أكثر هذه التيارات تجاذباً هو الصراع بين الإصلاحية والجذرية، ومن الضروري التمييز بينهما لاختلافهما الجوهري في الهدف والتطبيق.
التيار الإصلاحي يسعى عادة إلى تطوير المؤسسات والأنظمة القائمة من الداخل، عبر إصلاح السياسات، وتحديث القوانين، وتشجيع المشاركة المجتمعية، مع مراعاة الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي. والتعامل بواقعية مع الشخوص والجموع المشكل لمجتمع ما، بحيث تكون لديها القدرة على التعاون والتكاتف لتنفيذ تلك السياسات.
التيار الجذري يعتمد بشكل أساسي على تغييرات جذرية متجاوزة لكل الأطر القانونية والاجتماعية، ويُركز على التحولات السريعة أحياناً على حساب الاستقرار، ما قد يثير صراعات أو اضطرابات مؤقتة أو طويلة الأمد.
نظرة عملية
تشير الدراسات الحديثة إلى أن التيارات الإصلاحية تحقق نجاحاً ملموساً في التنمية المستدامة؛ بينما التيارات الجذرية غالباً ما تواجه انخفاضاً في معدلات الاستثمار تصل إلى 12% بسبب عدم اليقين السياسي. يقصد باليقين السياسي – عدم القدرة على تخطي المطبات السياسية و عدم القدرة على فرض الرؤية السياسية و عدم وجود استقرار سياسي و غياب وضوح الرؤية – لذلك، هذا التباين يستدعي استراتيجية مزدوجة: دعم السياسات الإصلاحية التي تعزز الشفافية والمساءلة، ومراقبة التيارات الجذرية لمنع تحول الأفكار الراديكالية إلى أفعال قد تهدد الاستقرار المجتمعي. كما هي في الحالة السورية
هذا التسارع المتزايد للأحداث السياسية والاجتماعية، يتضح الأمر كصراع بين تيارين متناقضين: الإصلاحي والجذري. التيار الإصلاحي يعمل كمنسق داخلي و مرمم لتلك الأطر؛ يحاول من خلالها تطوير المؤسسات، تحديث السياسات، وفتح المجال لمشاركة المواطنين دون هدم البنية القائمة. فوفق بيانات البنك الدولي لعام 2023 تكشف أن الدول التي اعتمدت الإصلاح التدريجي شهدت نمواً اقتصادياً متوسطه 3.8% سنوياً، وانخفاضاً في معدلات الفقر بنسبة 2.1% سنوياً، بينما التيارات الجذرية التي تعتمد على مسح الماضي واقتلاع جذوره وبناء منظومة جديدة كلياً، غالباً ما تواجه تراجعاً في الاستثمار يصل إلى 12% وزيادة في حالات عدم الاستقرار الأمني والاجتماعي بنسبة 18% سنوياً، وفق تقارير معهد السلام الدولي. مرد هذا الأمر لعملية البناء من القاعدة وليس الاعتماد على الأساس القديم.
وفي بعض الحالات ونتيجة لهشاشة الأساس واهتراء القوانين وعدم القدرة على إصلاحها، لابد و الحالة هذه أن يكون التغيير جذرياً، بحيث تسوى الأرض وتهيأ للبناء الجديد وهذا ما يحصل في التربة الزراعية عندما تقلب الأرض رأساً على عقب حتى يتم الزراعة من جديد.
بالمقابل المعركة ليست اقتصادية فقط؛ بل هي صراع بين الوعي وإدراك المخاطر وتخطي مراحل وسنوات تم العمل عليها وبين الرغبة الجامحة لهدم كل الإرث القديم وبناء قاعدة جديدة وفق شروط جديدة. الإصلاحيون يستخدمون أدوات التعليم، الإعلام، والتقنيات الحديثة لبناء مجتمعات متماسكة، بينما الجذريون غالباً ما يلجؤون إلى خطاب الاستقطاب والتحفيز العاطفي، و القرارات الثورية، لصالح تحولات سريعة، لكنها محفوفة بالمخاطر. من هنا، تتجلى الحاجة إلى استراتيجية مزدوجة: دعم الإصلاحات الواقعية القائمة على البيانات، وتطوير مؤشرات مراقبة مبكرة للتيارات الجذرية، بحيث يمكن احتواؤها قبل أن تتحول إلى أزمات ملموسة.
بالمحصلة، المعركة ليست بين أفكار وحسب، بل بين نماذج إدارة المجتمعات؛ نموذج يعتمد على الحذر والحكمة، ونموذج آخر يعوّل على التغيير السريع والمخاطرة الكبرى. الأرقام، هنا، ليست مجرد إحصاءات، بل أداة لتوجيه السياسات وصياغة المستقبل.
إن من أعقد الإدارات هي إدارة المجتمعات، فهي ليست قواعد جامدة يمكن العمل عليها دون تأثيرات جانبية، أو نظم ثابتة تعمل كالألة، بل هي ظروف وحاجات اجتماعية، تكون فيها العلاقات البشرية حاضرة وماثلة للجميع، إدارة المجتمعات فن التكيف مع الظروف وهو جزء من تلك التيارات الفكرية المتضاربة.