كشف تحقيق أجرته صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية، عن الأطفال المختفين قسرا في سوريا، عمليات ضخمة وممنهجة لطمس هوية الآلاف من أبناء المعتقلين في سجون الأسد، بالتواطؤ مع منظمة دولية غير حكومية.
وتقول الصحيفة إن جرائم الأسد لم تقتصر على معارضيه، بل تحولت إلى سياسة قمع شاملة استهدفت كل شيء حي في سوريا، حيث “تعرض الصغار للتحقيق والتعذيب والإخفاء القسري، في أقبية المخابرات الجوية والسجون السرية، وعلى مدى 13 عاماً، سُجن الآباء، وخُطف الأبناء، وحُولت براءة الطفولة إلى أداة قمعية”.
وبعد سقوط الأسد، كشفت الحقائق أن حجم المأساة يفوق التصور، وأن “عدد المعتقلين والمخفيين قسراً يتجاوز ما ارتكبه النازيون في الحرب العالمية الثانية”.
ولا يزال مصير أكثر من 100 ألف شخص اختفوا في سجون النظام السرية مجهولا، من بينهم آلاف الأطفال الذين تقدر الشبكة السورية لحقوق الإنسان عددهم بما لا يقل عن 3,700 طفل، بينما قد يكون العدد الحقيقي أكبر بكثير، وقد تم فصل مئات من هؤلاء الأطفال عن عائلاتهم ونقلهم سرا إلى 9 دور لرعاية الأيتام.
ومن بين تلك الدور ست منشآت تديرها منظمة دولية غير حكومية تُسمى قرى الأطفال SOS، وقد مُنح العديد منهم هويات مزيفة لمنع أقاربهم من العثور عليهم، وتقول نيويورك تايمز إنها حصلت على نسخ من عشرات الوثائق السرية الصادرة في عهد الأسد، إضافة إلى عدة قواعد بيانات ضخمة أنشأها جهاز المخابرات الجوية المسؤول عن العملية، ما يقدم أوضح صورة حتى الآن عن حجمها وقسوتها.
ورصدت الجريدة أوامر صدرت من الوزراء والمحافظين لدور الأيتام بإبقاء الأطفال مخفيين ومنع الكشف عن أي معلومات تعريفية تخصهم، وقال المتحدث باسم المنظمة SOS إن الأجهزة الأمنية السورية نادرًا ما قدمت وثائق رسمية، مما جعل “من المستحيل التأكد من أن جميع الأسماء دقيقة”.
وأكد التقرير أن الأوامر بفصل الأطفال عن ذويهم أو أقاربهم صدرت من كبار مسؤولي المخابرات الجوية، والتي كانت تكلّف وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل أو محافظ ريف دمشق بالبحث عن أماكن في دور الأيتام، مع إلزامهم بالحصول على موافقة المخابرات قبل اتخاذ أي قرارات أخرى بشأن مصير الأطفال.
وأشار التقرير إلى منظمة قرى الأطفال الدولية، وهي من أكبر المنظمات غير الحكومية في العالم وتعمل في 127 دولة، حيث واجهت في سوريا أخطر الاتهامات في تاريخها، فبحسب الوثائق والشهادات، استلم موظفوها أطفالاً من ضباط المخابرات مباشرة، ورفضوا في بعض الحالات تسليمهم إلى ذويهم بعد الإفراج عنهم، بحجة الحاجة إلى إذن أمني.
وأكدت شهادات بعض الأمهات اللواتي خرجن من السجون أنهن وجدن أبناءهن في دور الأيتام التابعة للمنظمة، لكنّ موظفيها أنكروا وجودهم أو رفضوا الاعتراف بعلاقتهم بهم، واكتشف بعض الأطفال أن أسماءهم تغيرت ببطء داخل هذه الدور، وأنهم باتوا يحملون هوية مختلفة، في عملية منظمة لطمس الذاكرة.
وبحسب التقرير، فهذه “ليست المرة الأولى التي يُثار فيها اسم المنظمة في قضايا مشابهة، ففي السلفادور خلال ثمانينات القرن الماضي، استقبلت قرى الأطفال SOS أطفالاً خُطفوا من قراهم على يد الجيش، وعُرض بعضهم للتبني دولياً.. اليوم، تكرر المشهد في سوريا، ما يطرح أسئلة قاسية حول حدود المسؤولية الأخلاقية للمنظمات الإنسانية حين تعمل تحت قبضة أنظمة استبدادية”.
وبعد سقوط النظام، شكّلت الحكومة السورية الجديدة لجنة للتحقيق في الإخفاء القسري للأطفال خلال الحرب، ومنذ ذلك الحين، تم اعتقال واستجواب مديري عدة دور أيتام سابقين ووزيرين سابقين للشؤون الاجتماعية والعمل، وتظهر التحقيقات توقيع ما لا يقل عن اثني عشر مسؤولًا رفيعي المستوى على الوثائق التي حصلت عليها الصحيفة.
وحددت لجنة التحقيق 314 طفلًا من أبناء المعتقلين انتهى بهم المطاف في دور أيتام، وهو عدد يُعتقد أنه غير كامل، إذ إن بعض المرافق دمّرت أو زوّرت سجلاتها، وكان العديد من هؤلاء الأطفال صغارًا جدًا عند فصلهم عن آبائهم لدرجة أنهم لا يتذكرون أصولهم.
وتؤكد وثائق حصلت عليها الصحيفة أن ما جرى لم يكن حالات فردية، بل سياسة ممنهجة، فمنذ عام 2013، اتخذت المخابرات الجوية قرارات سرية بنقل أطفال المعتقلين السياسيين إلى دور أيتام، وكُلفت وزارة الشؤون الاجتماعية أو المحافظون بتنفيذ التعليمات، ولم تكن هذه العملية عشوائية، بل حملت توقيعات وزراء ومسؤولين كبار، وتضمنت تعليمات صارمة بإخفاء هوية الأطفال، وعدم تمرير أي معلومات دون إذن مباشر من الأجهزة الأمنية.
وقد “أخفت حكومة الأسد ووكلاؤها نحو مئة ألف شخص قسراً، بينهم آلاف الأطفال، وهذا الرقم يفوق ما ارتكبه النظام النازي في الحرب العالمية الثانية، حيث اختطف النازيون عشرات الآلاف من الأطفال في أوروبا الشرقية، في حين تورط جيش السلفادور في ثمانينات القرن الماضي في خطف مئات الأطفال ووضعهم في دور أيتام تديرها منظمة قرى الأطفال الدولية، لكن الأسد ذهب أبعد بتحويل الإخفاء القسري للأطفال إلى جزء من بنيته الأمنية والسياسية، وجعل المؤسسات الإنسانية أدوات بيد الدولة”.
ووجدت فرق التحقيق داخل مقار المخابرات الجوية، بعد انهيار النظام أدلة دامغة على وجود الأطفال: “صنادل صغيرة ملقاة بين الأنقاض، سراويل طفولية، دمى مصنوعة من قصاصات قماش، وتقارير طبية توصي بإعطاء فاكهة لرضع يعانون من التهابات صدرية، كانت هذه الآثار شواهد على أن الأطفال عاشوا هناك فعلاً، قبل أن يُنقلوا إلى مصير مجهول”.
وحول سبل الحل يؤكد التقرير أن اختبار الحمض النووي سيكون مفيدًا في سوريا، لكن البلاد تفتقر حاليًا إلى القدرة على تنفيذه على نطاق واسع دون مساعدة خارجية من فرق دولية تضم علماء ومتخصصين في الطب الشرعي.
يذكر أن الهيئة الوطنية للمفقودين في سوريا، وثقت حتى اليوم 63 مقبرة جماعية، يُرجّح أنها تضم رفات مئات آلاف السوريين الذين دفنهم النظام البائد بعد موتهم تحت التعذيب.