بينما تتنفس المناطق المحررة في سوريا الصعداء بعد سنوات من الحرب، يواجه سكانها تحديات اقتصادية تعيد تشكيل أنماط حياتهم اليومية، من بين هذه التحديات، ارتفاع أسعار السلع الأساسية في مدن مثل حلب وحماة وحمص ودمشق، ما يدفع الكثيرين للتوجه إلى إدلب وسرمدا، اللتين أصبحتا وجهتين رئيسيتين للتسوق، حيث يجد السكان فيهما أسعاراً أقل وتنوعاً أكبر، هذا التحول اللافت في حركة التسوق يكشف عن تفاوت اقتصادي عميق بين باقي المناطق، ويطرح تساؤلات حول تبِعات هذا التفاوت وآثاره على الأسواق المحلية واستقرارها.
يشهد سوقا إدلب وسرمدا ازدحاماً يومياً، حيث يتوافد الأهالي من المناطق التي تحررت بعد سقوط الأسد لشراء احتياجاتهم، يعزو العديد من المتسوقين هذا النشاط إلى وفرة الخيارات وتنوع الأسعار.
في تصريح خاص لحلب اليوم للباحث الاقتصادي أ. حيان حبابة، حول الأسباب الاقتصادية الرئيسية التي تجعل إدلب وسرمدا وجهة مفضلة للتسوق مقارنة بالمناطق الأخرى، بالإضافة إلى تأثير وفرة التجار والمستوردين في إدلب وسرمدا على الأسعار وتنوع البضائع، أفاد: “يمكن القول إن العامل الأول هو الاستقرار النسبي مقارنة بمناطق أخرى في سوريا، بالإضافة إلى ذلك، سهولة الاستيراد بسبب قرب المنطقة من الحدود التركية، مما يسهل استيراد البضائع من تركيا وحتى من أوروبا بأسعار جيدة وتنافسية، وغياب الضرائب والرسوم الجمركية في بداية إنشاء هذه المنطقة كان عاملاً مهماً في دعم النشاط الاقتصادي، مع مرور الوقت بدأت الضرائب في الظهور، لكنها لم تؤثر بشكل كبير على النمو، وتنوع البضائع وتوافر السلع بأسعار مناسبة كان له دور بارز في جذب المستهلكين من مناطق أخرى، ووفرة التجار والمستوردين أثرت بشكل مباشر على انخفاض الأسعار، حيث تؤدي المنافسة بين التجار إلى تقديم خيارات متنوعة وبأسعار تنافسية للمستهلكين، هذا بالإضافة إلى زيادة العرض الذي يغطي احتياجات شريحة واسعة من السكان”.
تشتهر أسواق إدلب وسرمدا بتوفر البضائع المستوردة والمحلية على حد سواء، حيث تجد فيها منتجات تلبي احتياجات جميع الفئات، يشير أحد التجار المحليين في سرمدا إلى أن السلع المستوردة تحظى بإقبال كبير بسبب تنوعها وأسعارها التي تقل نسبياً عن مثيلاتها في المناطق الأخرى.
قرب إدلب وسرمدا من خطوط التماس جعلها محطة تجارية نشطة تربط الشمال السوري بالمناطق الأخرى، ووجود أسواق منظمة ومستودعات ضخمة ساهم في جذب التجار والمستهلكين، بالإضافة إلى كثرة التجار والمستوردين في إدلب وسرمدا خلق حالة من المنافسة التي انعكست إيجابياً على الأسعار.
وأضاف أ. حيان في سؤاله عن كيفية تحسين السياسات الجمركية أو الاقتصادية لدعم الأسواق المحلية في باقي المناطق: “لتحسين السياسات الجمركية والاقتصادية، يمكن اتخاذ خطوات مثل تخفيض الضرائب والرسوم الجمركية على السلع، وتبسيط إجراءات الاستيراد والتصدير، ودعم الإنتاج المحلي من خلال تقديم حوافز للمصنّعين لتحفيزهم على زيادة الإنتاج وتوفير فرص عمل، وبالنسبة لتزايد الإقبال على أسواق إدلب وسرمدا، قد يؤدي ذلك إلى نقص بعض السلع وارتفاع الأسعار نتيجة زيادة الطلب وقلة العرض، وهذا يتماشى مع قانون العرض والطلب”، موضحاً أنه لتحقيق التوازن الاقتصادي، من المهم تنويع الاستثمارات وتشجيعها في المناطق المحررة حديثاً لتوفير فرص عمل وتقليل البطالة وزيادة الإنتاج، كما ينبغي العمل على تحسين البنية التحتية، بما يشمل تطوير المباني والطرق وشبكات الصرف الصحي، لجذب المزيد من الاستثمارات، وتسهيل التجارة الداخلية لتعزيز حركة البضائع بين المناطق المختلفة.
مع استمرار تدفق الأهالي إلى إدلب وسرمدا، من المتوقع أن تشهد الأسواق توسعاً أكبر في الأنشطة التجارية، مما يعزز من مكانتها كمركز تجاري رئيسي للمناطق المحررة.
وأكد أ. حيان: “أن هناك فرصاً كبيرة لجذب الاستثمارات في مختلف قطاعات الإنتاج، سواء الزراعية أو الصناعية أو السياحية، وهذه الفرص تتطلب من الحكومة الجديدة استثمار علاقاتها مع الدول الإقليمية والعالمية لتقديم نموذج مثالي للاستثمار الدولي في سوريا، أما بالنسبة للتوقعات المستقبلية للنشاط التجاري في إدلب وسرمدا، فمن الواضح أنه مع الاستقرار الذي بدأنا نشهده اليوم، فإن الأولوية ستكون لبدء الإنتاج بشكل حقيقي وواقعي، ومع استمرار النمو في مناطق مثل إدلب وسرمدة، طالما توفر الاستقرار الأمني، يمكن أن تتحول هذه المناطق مع مرور الوقت إلى مراكز اقتصادية مهمة في سوريا، لتصبح سرمدا والمناطق الشمالية عموماً محركات اقتصادية حيوية”.
وحول تأثير التغيرات في التجارة الإقليمية أو الدعم الدولي على حركة الأسواق في إدلب وسرمدا لفت أ. حيان أن للتغييرات في التجارة العالمية أو الإقليمية والدعم الدولي تأثيراً كبيراً على حركة الأسواق في إدلب وسرمدا، حيث يؤدي الانفتاح وإزالة العقوبات المفروضة على سوريا إلى تعزيز النشاط التجاري، بالإضافة إلى دور كميات الودائع التي قد تضعها بعض الدول في البنك المركزي السوري في دعم الاقتصاد المحلي وتحفيز النمو، مضيفاً أن الاستراتيجيات التي يمكن أن تتبعها المحافظات لتحفيز النشاط التجاري فيها وجذب المستهلكين تشمل تقديم حوافز للاستثمار، مثل تسهيل الإجراءات وتقديم إعفاءات ضريبية، وهو ما يشجع المستثمرين على دخول السوق، كما يمكن تنظيم المعارض التجارية التي تهدف بشكل أساسي إلى تعريف المستهلكين بالمنتجات المحلية، بالإضافة إلى دعم جهود التسويق من خلال الحملات الإعلانية عبر الإنترنت وأساليب التسويق الرقمية المختلفة.
وفي سياق متصل حذر أ. حيان من التحديات التي قد تواجهها إدلب وسرمدا، من أبرزها نقص البنية التحتية، فقد تكون البنية التحتية الحالية في مناطق الشمال غير قادرة على استيعاب الزيادة في الطلب، زيادة على ذلك، فإن الاعتماد الكبير على الاستيراد يجعل الاقتصاد عرضة للتغيرات في الأسعار العالمية، ولا يمكن إغفال الضغوط السياسية التي قد تتعرض لها المنطقة، حيث إن هذه الضغوط تؤثر على نحو مباشر على استقرارها الاقتصادي، مضيفاً أنه لتحقيق التوازن الاقتصادي بين المناطق، يتطلب ذلك توزيعاً عادلاً للاستثمارات، وتحسين البنية التحتية في المناطق الأقل حظاً، وتشجيع المشاريع الإنتاجية المحلية لتقليل الاعتماد على الاستيراد، مما يسهم في خلق فرص عمل وتحقيق تنمية متوازنة بين المناطق جميعها.
بينما تشهد إدلب وسرمدا نمواً اقتصادياً ملحوظاً، يبقى السؤال الأهم: هل ستتسع هذه الأسواق لتلبية احتياجات العدد المتزايد من المتسوقين، أم ستواجه تحديات جديدة مع استمرار عودة الحياة إلى مختلف مناطق سوريا؟
هبة الله سليمان