تشهد مدينة حلب، كغيرها من المدن السورية، أزمة حادة في قطاع الإسكان، حيث أصبح غلاء الإيجارات تحدياً كبيراً يواجه أهالي المدينة، وبشكل أكبر الراغبين بالعودة إليها.
وبعد سنوات من الحرب والنزوح، تزايد الطلب على السكن بشكل كبير، ما أدى إلى ارتفاع الإيجارات بشكل غير مسبوق، حيث أدى الدمار الناجم عن القصف لقلة في المعروض من البيوت الصالحة للسكن، وهذا الواقع خلق ضغطاً اقتصادياً إضافياً على المواطنين، خاصةً في ظل الظروف المعيشية الصعبة.
ومع سقوط النظام السابق، بات في إمكان المهجرين العودة لمدينتهم، لكن الدمار الذي لحق بقسم واسع من الأحياء، خاصة الشرقية منها، وضعهم أمام خيارات صعبة؛ إما السكن في البيوت المدمرة والحال يختلف من منزل لآخر، أو الاستئجار في أماكن أخرى من المدينة، وسط ارتفاع في الأسعار والتكاليف.
يقول مراسل حلب اليوم في المدينة، إن الغالبية العظمى من المؤجِّرين يطلبون دفع بدل إيجار عن عام كامل مُقدما دُفعةً واحدة، فضلا عن حصة المكتب العقاري التي تعادل شهرا كاملا، ومبلغ التأمين الذي يعادل في المتوسط شهرا أيضا، ما يعني أن على الراغب في الاستئجار دفع أجرة 14 شهرا مرة واحدة، وقلّما يوجد من يقبل بدفع أجرة نصف عام فقط.
وتتراوح قيمة الإيجارات بحسب المنزل ومساحته وموقعه، ولكن بالنظر إلى الدخل المنخفض، وارتفاع معدلات الفقر، تبقى مرتفعة، وتفوق طاقة معظم السكان.
يقول أبو محمد، وهو بقال يسكن في مدينة إدلب منذ سنوات، عقب تهجيره من حلب، إنه لا يزال نازحا حتى اليوم، رغم مضي فترة على تحرير مدينته، بسبب الصعوبات التي وجدها هناك، ما دفعه للبقاء في إدلب.
وأوضح أن الإيجارات في إدلب ايضا مرتفعة، لكن المشكلة في حلب هي طلب إيجار عام كامل، حيث بحث عن منزل يتسع له ولعائلته البالغ عدد أفرادها خمسة أشخاص، ولم يجد منزلا مقبولا للسكن، بسعر يقل عن 1.5 مليون ليرة سورية، أي ما يعادل نحو 115 دولارا بموجب سعر الصرف الحالي، وهو يعادل ما يدفعه شهريا في إدلب.
لكن اضطراره لدفع أجرة عام، مع “المكتبية” ومبلغ التأمين، تعني أن عليه تأمين أكثر من 1600 دولار أمريكي، وهذا لا يشمل كل التكاليف.
تضيف صعوبات المعيشة عبئا آخر ثقيلا على أبو محمد، حيث أن انقطاع الكهرباء يمثل تحديا إضافيا أمامه، ففي حال رغب في وصل “اشتراك” بالتيار من الةولدات فعليه دفع ما يقرب من 25 دولارا أمريكيا في الشهر، مقابل كل 1 أمبير فقط، وفي حال أراد استعمال الغسالة والبراد فعليه وصل ما لا يقل عن 2 أمبير، أي دفع 50 دولارا شهريا مقابل الكهرباء فقط.
ولا تقف التكاليف هنا، حيث أن الاشتراك يغطي فقط 9 ساعات يوميا، وبالتالي فعليه شراء بطاريات وجهاز للشحن ورافع للجهد، وعمل تمديد كهربائي خاص بذلك، وهو ما يضيف تكاليف أخرى، ترفع كلفة الاستئجار فعليا لنحو 2500 دولار خلال عام واحد، فضلا عن التكاليف المعيشية الأخرى وانقطاع الماء المتكرر وغلاء سعر الخزان.
ويجري الحديث هنا عن الأحياء الشعبية المزدحمة، أما في الأحياء الجيدة فتصل قيمة الإيجارات لما يتراوح بين 200 و 300 دولار في الشهر.
ولا تقف التحديات عند غلاء إيجار المنزل، حيث أن على الرجل دفع تكاليف باهظة أيضا لاستئجار محل، في حال رغب بنقل دكانه من إدلب إلى حلب، ويقول إنه لم يحاول أصلا البحث عن محل لأن الأوضاع باتت صعبة جدا أمامه، مما دفعه للبقاء على وضعه الحالي.
يؤكد مراسلنا أن أسعار المواد في حلب لا تزال مرتفعة مقارنة بالمناطق التي كانت محررة من قوات الأسد، ويشمل ذلك معظم المواد الغذائية والمحروقات من بنزين وديزل وغار، وهو ما يضع تحديات كبيرة أمام السكان.
الأسباب الرئيسية لغلاء الإيجارات
أدى تدمير البنية التحتية، والمنازل والأحياء، خلال سنوات الحرب، إلى تقليص المعروض من المنازل الصالحة للسكن، في مقابل ارتفاع الطلب مع حركة النزوح الواسعة.
كما انعكس غلاء الأسعار على التكاليف الباهظة للإصلاح والبناء، حيث أن إعادة إعمار المنازل المتضررة تتطلب استثمارات كبيرة، وهو ما انعكس بدوره على أسعار الإيجارات، وسط غياب القوانين الصارمة التي تحدد سقف الإيجارات أو تفرض ضوابط على أصحاب العقارات مما ساهم في تفاقم المشكلة.
يقول أبو سالم، وهو صاحب مكتب عقاري بالمدينة، إن بدل الإيجار الشهري ليس منخفضا ولا مرتفعا مقارنة بتكاليف المعيشة، وإن سبب المشكلة هي ارتفاع الطلب وقلة المعروض، نافيا مسؤولية تجار العقارات وأصحاب المكاتب عن المشكلة.
وحول سبب طلب إيجار سنة كاملة،أوضح أن التدهور المستمر لسعر الليرة السورية، وحظر النظام السابق للتعامل بالدولار، يثير قلق أصحاب المنازل من تعرضهم للخسارة، حيث أن عليهم توقيع عقد بقيمة معينة محددة بالليرة السورية التي كانت تنهار باستمرار، مما يدفعهم لطلب إيحار عام كامل مسبقا لضمان حقهم، وهو النظام الذي لا يزال دارجا حتى اليوم، ولا يزال الجميع معتادا عليه.
وقد جعل التضخم وارتفاع تكلفة المعيشة من الصعب على أصحاب العقارات الحفاظ على أسعار الإيجارات القديمة، فيما يستهلك ذلك جزءاً كبيراً من دخل الأسر، ويضطر البعض للتخلي عن أساسيات الحياة، بل قد يرفع أعداد المشردين، أو يُجبر بعض الأسر على العيش في ظروف قاسية أو غير لائقة.
ويسبب ذلك أيضا حالة من التفكك في النسيج الاجتماعي، وتشتت الروابط الاجتماعية مع اضطرار العائلات إلى الانتقال من أحيائها الأصلية بسبب غلاء الإيجارات، وبالتالي فهي ليست مجرد مشكلة اقتصادية.
وتبقى الحلول بعيدة المنال خلال الوضع الحالي، في انتظار عملية إعادة الإعمار، والتي يتوقع مراقبون أنها ستستغرق وقتا طويلا ريثما يتم تشكيل حكومة جديدة تحظى بقبول دولي، ومن ثم يتم إقامة مؤتمر لمانحين وتشكيل صندوق خاص.
ومن غير الواضح حتى اليوم – وفقا للخبراء – ما إذا كانت إعادة اللإعمار المرتقبة ستشمل البنية التحتية فقط، أم إعادة بناء المنازل المدمرة، وهو ما يضع مسؤولية التحرك الفوري على عاتق الحكومة الحالية، لضبط الأوضاع وتخفيف التكاليف على المواطنين قدر الإمكان.