بعد أكثر من عقد من الغياب عن الجامعة العربية، تقف الحكومة السورية الجديدة على أعتاب مرحلة جديدة تُثار فيها التساؤلات حول إمكانية إعادة دمجها في محيطها العربي وسط تحديات كبرى فرضتها سنوات طويلة من العزلة والأزمات، فالحديث عن اتفاقيات الجامعة العربية يفتح الباب أمام جدل واسع حول قدرة سوريا على استعادة دورها الإقليمي والاقتصادي ومدى استعداد القوى السياسية الجديدة لتقديم التزامات حقيقية تُمهد لبناء مستقبل مختلف يُعيد للبلاد مكانتها الطبيعية، في ظل حاجة ملحّة لاستقرار سياسي يمكّن من مواجهة التحديات الداخلية والخارجية ويفتح الطريق نحو إعادة الإعمار وتحقيق التعافي المنشود.
وفي هذا الصدد، يؤكد الدكتور عباس عبيد، أستاذ العلاقات الدولية، أن إعادة تفعيل اتفاقيات الجامعة العربية ستشكّل ركيزة أساسية لاستعادة سوريا لدورها المحوري إقليمياً، مشيراً إلى أن التعاون العربي يمكن أن يُحدث تحولاً كبيراً في مسار التعافي الاقتصادي والسياسي للبلاد، منوّهاً إلى أن الجامعة العربية ليست مجرد إطار رمزي؛ بل هي منصة عملية تُتيح التنسيق في ملفات استراتيجية، مثل إعادة الإعمار وملف اللاجئين والتكامل الاقتصادي، إذا قدّمت الحكومة السورية الجديدة التزامات واضحة وملموسة، سيكون بإمكان الدول العربية دعم جهود سوريا للخروج من أزمتها الطويلة، والمطلوب هو بناء جسور الثقة من جديد، وإثبات أن سوريا باتت على طريق الإصلاح السياسي والمصالحة الوطنية.”
ويضيف الدكتور عبيد أن العودة إلى الجامعة العربية ستُترجم فعلياً عبر مشاريع اقتصادية وتنموية مشتركة تُسهم في إعادة إعمار المناطق المتضررة، مشيراً إلى أن الدول الخليجية قد تكون على رأس المساهمين في هذه الجهود لما تملكه من موارد وقدرات اقتصادية ضخمة، لكنه حذّر في الوقت ذاته من أن الدعم العربي سيكون مشروطاً بتحقيق خطوات فعلية من السلطة الجديدة، مثل تعزيز الشفافية، محاربة الفساد، وضمان بيئة آمنة للاستثمار.
وتابع قائلاً: “السلطة الجديدة أمام اختبار حقيقي لإثبات مصداقيتها، لأن الدول العربية، خاصة الخليجية، لن تُقدّم الدعم دون التأكد من التزام القيادة السورية الجديدة بمبادئ الحكم الرشيد، وتحقيق الاستقرار السياسي والأمني الذي يضمن استثماراً ناجحاً وفاعلاً في مستقبل البلاد”، كما رأى أن نجاح سوريا في تفعيل هذه الاتفاقيات سيُعيد رسم المشهد السياسي والاقتصادي في المنطقة، ويُمكنها من أن تتحول إلى نقطة ارتكاز جديدة ضمن منظومة العمل العربي المشترك”.
وزاد: “استعادة مقعد سوريا في الجامعة العربية مرتبط بتقديم ضمانات حقيقية للإصلاح، سواء كان على المستوى السياسي أو الأمني، كما أن الدول العربية لن تقبل بعودة شكلية ما لم تظهر السلطة الجديدة خطوات فعلية تثبت نيتها تحقيق الاستقرار ومحاربة الفساد”.
من جانب آخر، أوضح الخبير الاقتصادي سعد عفان أن الحكومة الجديدة بدأت فعلياً بتفعيل قنوات التعاون الاقتصادي مع الدول العربية للاستفادة من اتفاقيات الجامعة العربية في إطلاق مشاريع تنموية تعيد بناء ما دمّرته الحرب، وفي الواقع تحتاج سوريا إلى استثمارات ضخمة لإنعاش الاقتصاد المتهالك وبناء البنية التحتية، وهو ما يُمكن تحقيقه من خلال جذب الدعم العربي، خاصة من دول الخليج.
ويضيف عفان في حديثه لحلب اليوم: إن “الدعم العربي لن يأتي بدون شروط؛ لأن الدول الداعمة تبحث عن إدارة شفافة تضمن أن أموال إعادة الإعمار تُستثمر بشكل فعّال بعيداً عن شبكات الفساد؛ وبالتالي، فإن قدرة السلطة الجديدة على إثبات نزاهتها ستكون العامل الحاسم في جلب هذا الدعم”.
وأكمل قائلاً: “لذلك فإن السلطة الجديدة يجب أن تبدأ بخطوات جدية لإعادة بناء العلاقات الثنائية مع الدول العربية لضمان دعم سياسي واقتصادي طويل الأمد، كما أن تقديم رؤية واضحة لمستقبل سوريا كدولة مستقلة وموحدة سيُعيد الثقة بين دمشق والدول العربية، ويتيح فرصاً أكبر للتنسيق في ملفات حيوية مثل إعادة الإعمار وملف اللاجئين.
في السياق ذاته، يشير المحلل العسكري فراس الشامي إلى أن “عودة سوريا إلى الجامعة العربية يتطلب ضبط الأمن الداخلي وإنهاء الفوضى التي خلّفها النظام السابق، فالدول العربية لن تُقدم على دعم مشاريع إعادة الإعمار دون التأكد من قدرة السلطة الجديدة على فرض الاستقرار الأمني ومكافحة أي جماعات مسلحة تهدد هذا المسار، ولذلك فإن السلطة الجديدة عليها أن تُثبت التزامها بمكافحة الفساد وتفعيل الشفافية كجزء من خطواتها لاستعادة الثقة محلياً وإقليمياً، فهذه الالتزامات تُعد مفتاحاً لكسب الدعم العربي والدولي في إعادة الإعمار”.
التكامل الاقتصادي الإقليمي
بدوره، يقول الخبير الاقتصادي فؤاد عمران أن السلطة الجديدة عليها أولاً أن تُوظّف اتفاقيات الجامعة العربية في تسهيل التعاون الإقليمي لتحقيق التكامل الاقتصادي وتعزيز التجارة بين سوريا والدول العربية، وهو الأمر الذي يُساهم بشكل حقيقي في تعافي الاقتصاد السوري تدريجياً.
وقال: “التكامل الاقتصادي مع الدول العربية سيكون حلاً مثالياً لإنقاذ الاقتصاد السوري؛ فالأسواق العربية هي الأقرب لسوريا جغرافياً وثقافياً، ويُمكن أن تشكّل رافعة أساسية لدعم القطاعات الحيوية مثل الزراعة والصناعة.”
وتطرق الخبير عمران إلى قضية المصالحة الوطنية الداخلية الذي اعتبرها بأنها ستكون بمثابة تحدياً رئيسياً أمام السلطة الجديدة، إذ تُعتبر شرطاً أساسياً لضمان دعم الدول العربية، مؤكداً على أن تحقيق المصالحة الوطنية سيساهم في تعزيز الثقة الشعبية بالسلطة الجديدة، كما سيضمن نجاح أي جهود عربية لدعم سوريا، ويؤكد أن هذه السلطة تمثل جميع السوريين دون إقصاء”.
ويجمع من تحاورت معهم قناة حلب اليوم من خبراء ومحليين خلال إعداد هذا التقرير على أن اتفاقيات الجامعة العربية ستكون فرصة استراتيجية أمام السلطة الجديدة في سوريا لإعادة دمج البلاد إقليمياً وتحقيق التعاون السياسي والاقتصادي المطلوب لبدء مرحلة التعافي، كما أن نجاح هذه الاتفاقيات يعتمد على جدية السلطة الجديدة في تقديم التزامات واضحة بالإصلاح السياسي والاقتصادي، والعمل على تحقيق المصالحة الوطنية وضمان الاستقرار الداخلي، فمن خلال ذلك، ستتمكن سوريا من استعادة موقعها الطبيعي ضمن الدول العربية وفتح الأبواب نحو مستقبل أكثر استقراراً وازدهاراً.
عمر حاج حسين