تعاني البلاد عموما، بما فيها منطقة الشمال السوري الخارج عن سيطرة سلطة الأسد، من مسألة الأخطاء الطبية المتكررة، دون اتخاذ أية إجراءات رادعة تحاسب المسؤولين عن ارتكابها.
ومع ظروف البلد الاستثنائية منذ عام 2011، توجد هناك العديد من العوامل التي ساهمت في تفاقم المشكلة، لكن ذلك لا يعفي الأطباء والمسؤولين عن المجال الصحي بالمنطقة، وفقا للعديد من المراقبين.
وتُعد الأخطاء الطبية مشكلة عالمية، لكن الشمال السوري يواجه تحديات إضافية تميز الوضع هناك بسبب السياق الخاص به، والأوضاع الحرجة للسكان.
تقول “ثناء. غ” المقيمة في مدينة إدلب، لموقع حلب اليوم، إنها عانت طويلا خلال عدة سنوات ماضية من تكرار الإجهاض لأسباب غير معروفة، ورغم ترددها على مختلف طبيبات النسائية بالمنطقة، إلا أنها لم تجد حلا لمشكلتها، رغم تناول العديد من الأدوية وإجراء الكثير من الفحوصات ودفع تكاليف كبيرة، ليتم اكتشاف المشكلة أخيرا وهي وجود جرثومة لديها.
تضيف المرأة الثلاثينية، معربةً عن استياءها، أن المشكلة لا تكمن فقط في ما تكبدته من عناء وتعب وكلفة وتأخير في الإنجاب، إلا أن ما يثير غضبها هو أن من اكتشف المشكلة طبيب أطفال كانت تعالج عنده ابنتها، حيث أكد لها أن الأعراض التي لديها واضحة وتدل على وجود تلك الجرثومة مستغربا كيف لم يتم اكتشافها طيلة تلك السنوات، وهو ما ثبت بالفعل بموجب التحاليل التي أجريت فيما بعد، لتتكلل محاولاتها الأخيرة للإنجاب بالنجاح.
وفي تعليقه على ذلك، يؤكد الصيدلاني “محمد .ح” أن مشكلة تكرار الأخطاء موجودة بالفعل، وأنه يلاحظ ذلك في أثناء عمله، لكنه يرى أن هذا الأمر لا يعبر عن تدنٍّ في المستوى الطبي والمهني للأطباء في المنطقة.
ويضيف أن هناك عوامل عدة مردها إلى الازدحام، وضيق الوقت الذي يضغط على الطبيب، بالإضافة لقلة التجهيزات، وارتفاع معدلات الفقر، التي تدفعه لتقليل التكلفة على المريض وتجنب طلب الكثير من التحليلات والصور، لكن ذلك قد يعود سلبا على المراجع الذي ستمتد معاناته طويلا قبل أن يضطر لإجراء الفحوصات اللازمة في نهاية الأمر.
إلا أن ذلك ليس مبررا لحجم الأخطاء التي يراها الشاب الثلاثيني “عبد الرزاق. ع” المقيم بريف إدلب الغربي “كارثية” و”بديهية”، حيث ذكر على سبيل المثال أنه عانى من ألم في ضرسه بسبب إجراء خاطئ من قبل طبيب تخرج حديثا، إذ عمد لتغطية النخر لديه علما بأن ضرسه مصاب بالتعفن، ما سبب له آلاما فظيعة، وهو “خطأ بديهي يعرفه كل من له علاقة بمجال طب الأسنان”.
يعاني القطاع الصحي في الشمال السوري من نقص حاد في الكوادر الطبية المؤهلة، حيث هاجر العديد من الأطباء والمتخصصين بسبب الحرب، تاركين فراغًا كبيرًا في مجال الرعاية الصحية، إضافة إلى ذلك، فإن العديد من الممارسين الذين بقوا يعملون في ظروف شاقة وغير مناسبة لممارسة الطب بشكل آمن.
ويضاف لذلك قلة التجهيزات والمعدات الطبية، حيث تتعرض المستشفيات والمراكز الصحية لضغوط هائلة بسبب قلة الموارد فالمعدات المتاحة غالبًا ما تكون قديمة أو غير صالحة، وهو ما يزيد من احتمالية وقوع الأخطاء أثناء تقديم الرعاية الطبية.
كما تعاني المراكز الصحية في الشمال السوري من ازدحام شديد وضغط عمل متواصل بسبب العدد الكبير من الجرحى والمرضى، ما يؤثر على أداء الأطباء والممرضين، حيث يصبح الوقت المتاح لتقديم الرعاية المناسبة محدودًا، وتزيد احتمالية وقوع الأخطاء، وفقا لمحمود.
غير أن عبد الرزاق يصر على أنه لا مبرر للأخطاء دائما إذا كانت بهذا الحجم، موضحا أنه اشتكى من مشكلة الأرق لأكثر من 4 سنوات، فضلا عن آلام عصبية ناجمة عن إصابة سابقة بسبب حادث سير، حيث عانى كل تلك الفترة مع آلامه دون جدوى فالأدوية التي وُصفت له لم تأت بنتيجة.
يضيف الشاب أن طبيبه وصف له دواء “البرباغالبين” الذي يعطى عادة لبعض من يعانون من آلام عصبية، وبعد مداومته عليه لأسابيع أبلغ طبيبه أنه لم ينتفع، ليصرّ الأخير على أن هذا الدواء هو الحل الوحيد وأن عليه أن يعتاد على تلك الحال.
لم تكن معاناة الشاب متوقفة عند الآلام المستمرة، بل إن حرمانه من النوم نتيجة الأرق غير معروف السبب فاقم معاناته النفسية، وعند استشارته لطبيب آخر وصف له دواء “التريبتوفان” وهو مضاد للاكتئاب ومساعد على النوم، لكنه لم يصل إلى نتيجة.
ومع استمرار تلك الحالة لجأ إلى طبيب ثالث، ليؤكد له الأخير أنه سليم، وأن معاناته ناجمة عن حالة نفسية فقط، ووصف له 3 أنواع من مضادات الاكتئاب، والتي تناولها دون نتيجة أيضا، ومع مراجعته نصحه الطبيب بالاستمرار على الدواء ولكن دون جدوى.
يمضي عبد الرزاق بالقول: لقد مررت بفترة امتدت لنحو عامين من اليأس توقفت فيها عن تناول الدواء، وتحملت فيها الآلام المستمرة ليلا نهارا، وتفاقمت مشكلة الأرق حتى بت لا أنام مطلقا في بعض الليالي، حتى قررت أن أبحث عن علاجي بنفسي عبر الإنترنت.
وبحسب ما ذكره الشاب، وهو خريج كيمياء ولديه اطلاع على المواد الكيميائية والأدوية، فقد لاحظ أن حالته تتحسن بتناول الفيتامينات والمعادن، حيث بدأ يبحث عن أعراض نقص كل منها على حدى ويراقب استجابه جسمه لها، ليستقر أخيرا على تناول “كالسيوم/ مغنيسيوم” حيث انتهت آلامه وأرقه ومعاناته النفسية خلال يومين فقط.
ربما من غير الصحيح تناول الدواء بدون وصفات – يضيف عبد الرزاق – لكنه لم يجد بديلا، متسائلا ماذا كان عليه أن يفعل غير ذلك، ومتسائلا أيضا عمن سيعوضه عن كل تلك السنوات التي عاش فيها آلاما بلا مبرر بينما الدواء بسيط وفي متناول اليد، بل إنه يخشى أن تكون الأدوية التي تناولها سابقا قد سببت له أضرار للكلى والمعدة.
غياب الرقابة والمساءلة
لم يعتد السوريون على اللجوء إلى القضاء بسبب التعقيدات وطول فترة الدعاوى والكلفة الكبيرة لإقامتها، فضلا عن انتشار الفوضى والفساد وغياب السلطة الحقيقية للدولة.
ولا يزال هذا الوضع قائما في الشمال السوري، وفقا لأحد المطلعين على الواقع القضائي بالمنطقة، وهو ما يحول دون المحاسبة على الأخطاء الطبية.
من الصعب – يضيف المصدر – إثبات وقوع الأخطاء، مع غياب السجلات الكاملة والمؤتمتة التي تبين تفاصيل الحالة ومكمن الخطأ، ولذا فإن تلك القضايا لا تصل للمحاكم إلا في حال أدى الخطأ لكارثة مثل الموت أو الشلل.
وينص القانون السوري، على أن “التزام الطبيب مع مريضه هو التزام عناية وليس لتحقيق غاية”، أي أن الطبيب ليس ملزما بوصول مريضه للشفاء إنما هو ملزم بفعل ما بوسعه وليس عليه ضمان النتائج، وفقا لما شرحه المصدر.
يقطن “جمال. س” وهو رجل خمسيني، شمال أعزاز، وقد اشتكى عقب عملية ديسك أجريت له عام 2020 من حرقة واحمرار في البول، حدثت بعد تركيب القثطرة له لفترة طويلة.
وعند مراجعته للطبيب أكد له الأخير أنه يعاني من التهاب في المجاري البولية، ووصف له ciprofloxacine، حيث التزم المريض به لاسبوعين متتالين وخفت الأعراض دون أن تُحل المشكلة، ولدى مراجعته طلب منه الاستمرار على نفس الدواء.
وبعد عدة أسابيع توقف الرجل عن الوصفة، ليراجع طبيبا آخر ويصف له نفس الدواء، وعند إبلاغه بأنه لم ينفعه وصف له نوعا آخر من مضادات الالتهاب الخاصة بالمجاري البولية، لتكرر ذات القصة.
ومع اقتراب معاناته من العام، ذهب جمال إلى طبيب ثالث، حيث بادر لكتابة نفس الدواء، وعند إبلاغه بأن مضادات الالتهاب لم تنفعه طلب منه الطبيب أخيرا إجراء تصوير، ليتبين أن هناك رملا في الحالب وحصى في المثانة.
اضطر الرجل الخمسيني بعد ذلك لإجراء عملية تفتيت كلفته نحو 350$، فضلا عن المعاناة في التنقل بين سكنه الريفي والمشفى وتعطله عن عمله، مرجحا أنه لو تم اكتشاف الأمر منذ البداية لكانت هناك فرصة كبيرة للعلاج بدون عملية، حيث تساءل عمن يمكن أن يعوضه عن تلك المعاناة؟.
وفي ظل غياب سلطة مركزية قوية وقوانين تنظيمية واضحة، تقل فرص مساءلة الأطباء والممارسين عند وقوع أخطاء طبية، مما يفاقم المشكلة، حيث يعاني الشمال السوري من طوامَّ عديدة كانتشار الفوضى والسرقة وغياب العدالة الاجتماعية.