كشفت وكالة “فرانس برس” العالمية للأنباء عن فظائع ارتكبتها قوات اﻷسد، في سجن “صيدنايا” العسكري قرب العاصمة دمشق، استناداً إلى تقرير لرابطة مخصّصة لمعتقلي ومفقودي السجن.
يأتي ذلك بعد أيام قليلة من نشر موقع “زمان الوصل” السوري، تقريراً عن انتهاكات وإعدامات ومقابر جماعية وقعت في سجن حلب المركزي، خلال وقت سابق.
ونشرت الوكالة الفرنسية في تقرير اليوم الخميس شهادات لسجناء وضباطٍ سابقين في “صيدنايا”، بالتعاون مع “رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا” سيء الصيت.
وأشار التقرير إلى ما يُعرف بـ”غرف الملح” التي تتمثّل مهمّتها في تأخير تفسّخ الجثث داخل السجن، والتي تمّ تخصيصها بعد اندلاع الثورة، لارتفاع حالات الموت تحت التعذيب.
ووثّقت الرابطة في تقرير “ستنشره قريباً” للمرة الأولى تفاصيل عن تلك الغرف، التي تشهد على سقوط جثث المعتقلين بشكل شبه يومي، جراء التعذيب أو ظروف الاعتقال السيئة.
وقالت الوكالة إنه بناء على تقرير الرابطة ومقابلات أجرتها مع معتقلين سابقين، تبين أن في سجن صيدنايا العسكري “غرفتي ملح” على الأقل تُوضع فيهما الجثث حتى يحين وقت نقلها، فيما يغيب الملح تماماً عن كميات الطعام القليلة التي يحظى بها المعتقلون، وعلى الأرجح لإضعافهم جسدياً.
اقرأ أيضاً: تفاصيل جديدة حول جريمة قتل الطفل “ياسين”
ويقول عبدو (30 عاماً) لـ”فرانس برس” طالباً عدم الكشف عن اسمه الحقيقي خوفاً على أفراد من عائلته لا يزالون يقطنون في مناطق سيطرة النظام في سوريا: “بداية، قلت لنفسي “الله لا يوفقهم” لديهم كل هذا الملح ولا يضعونه في طعامنا؟”، لكنّه بعدما تناول كمية من الملح، توجّه إلى الحمام الخالي من المياه في زاوية الغرفة، وبعد خروجه منه تعثر بالجثة الأولى، ويقول “دستُ على شيء بارد، كانت رجل أحدهم”.
وتجمّد “عبدو” من الخوف بعدما رأى الجثث الثلاث الملقاة على الملح، وقد نُثر عليها المزيد منه، وبدأت رجلاه ترتجفان، حيث ظنّ أن هذا سيكون مصيره، وأنه حان دوره لإعدامه، حيث “جلس قرب الحائط وبدأ بالبكاء وتلاوة القرآن”، ولم يتحرك من مكانه لما يقارب ساعة ونصف الساعة.
ويصف الشاهد الغرفة المستطيلة، بمقاس ستة أمتار بالعرض وسبعة أو ثمانية بالطول، بأن أحد جدرانها من الحديد الأسود يتوسطه باب حديدي، وتقع في الطابق الأول من المبنى المعروف بالأحمر، وهو عبارة عن قسم مركزي تتفرع منه ثلاثة أجنحة.
لم يتنفس “عبدو” الصعداء سوى حين عاد السجان، ووضعه في سيارة نقل السجناء، وتأكد أنه بات في طريقه إلى المحكمة.
وأثناء خروجه من الغرفة، رأى قرب الباب أكياس جثث سوداء فارغة مكدسة، هي ذاتها الأكياس التي نقلت فيها في أحد الأيام، جثثٌ لمعتقلين.
ويقول “عبدو” الذي أفرج عنه في 2020، “في صيدنايا، قلبي مات، لم يعد شيء يؤثر بي، حتى وإن قال لي أحدهم إن شقيقي مات، بات الأمر بالنسبة لي عادياً، جراء الموت والعذاب والضرب الذي رأيته، كل شيء بات عادياً”.
ويروي معتصم عبد الساتر (42 عاماً) تجربة مشابهة في غرفة مختلفة تقع في الجناح نفسه من الطابق الأول من المبنى الأحمر، ويصف غرفة بعرض أربعة أمتار وطول خمسة أمتار، ولا يوجد فيها حمام، دخلها في 27 نيسان/أبريل 2014.
ويقول إنه شعر يومها وكأن قلبه سيخرج من صدره من شدة الخفقان بعدما نده عليه السجان لإطلاق سراحه، لا يزال يتذكّر كلّ تفصيل من ذلك اليوم، وبينها طعام الإفطار الذي كان عبارة عن قطعة خبز وثلاث حبات زيتون.
ودّع معتصم رفاقه وسار فرحاً خلف سجّانه، لكنه فوجىء بطلب هذا الأخير منه الدخول إلى غرفة لم يرها سابقاً، حيث يضيف من منزله في “الريحانية” جنوب تركيا: “غرقت قدمي في مادة خشنة، نظرتُ فإذا به ملح بعمق 20 إلى 30 سنتمتراً”، مشيراً إلى أنه الملح الصخري ذاته الذي اعتاد أن يرى شوالات منه إلى جانب الطرق خلال أيام الشتاء.
تذوّق معتصم بعض الملح المحروم منه في السجن، لكن سرعان ما وقعت عيناه على أربع أو خمس جثث ملقاة في المكان، ويضبف: “شعور لا يوصف، أصعب من لحظة الاعتقال، قلت لنفسي سيعدمونني الآن ويضعونني بينهم… أنا أساساً أشبههم”.
حين دخل معتصم السجن في العام 2011، كان يزن 98 كيلوغراماً، لكنه خرج منه بوزن لا يتجاوز 42 كيلوغراماً، حيث “كانت الجثث تشبه المومياء، وكأنها محنطة… كانت عبارة عن هيكل عظمي مكسوٍ باللحم يمكن أن يتفكّك في أي لحظة”.
بقي معتصم في الغرفة ثلاث إلى أربع ساعات، ويقول “كان الملح يذوب من تحتي من شدة تصبّب العرق مني”.
وبناء على شهادات معتقلين وموظفين سابقين في السجن، تعتقد رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا أن أول “غرفة ملح” وُجدت في النصف الثاني من العام 2013، مع اشتداد التعذيب وتردّي الأوضاع في السجن.
ويقول الشريك المؤسس في الرابطة “دياب سرية” من مكتب الرابطة في “غازي عنتابط التركية لـ”فرانس برس”: “تمكننا من تحديد غرفتي ملح على الأقل، وكل منهما استخدمت لتجميع جثث الأشخاص الذين قضوا تحت التعذيب أو توفوا جراء الأمراض أو عمليات التجويع”.
ويضيف أنه كان يتمّ الإبقاء على الجثث بين يومين وخمسة أيام داخل المهاجع إلى جانب المعتقلين كأحد أساليب العقاب، قبل نقلها إلى غرف الملح لـ”تأخير تحلّلها”. ثم تُترك الجثث يومين داخل “غرف الملح” في انتظار تجميعها قبل نقلها إلى مستشفى عسكري لتوثيق الوفاة ثم إلى مقابر جماعية.
ويوضح سرية: “برأينا، الهدف من الملح هو حفظ الجثث، إذ إن الملح يمتص السوائل والإفرازات، ويحول دون أن تفوح رائحتها، وذلك لحماية السجانين وإدارة السجن من البكتيريا والأمراض”.
ويضيف: “هناك الكثير من الموت في صيدنايا لكن ليست هناك برادات للموتى”، مشيراً أيضاً إلى صعوبة نقل الجثث يومياً إلى خارج السجن خصوصاً في فترات اشتدت فيها المعارك بين قوات النظام والفصائل المعارضة بين 2013 و2017.
ويوضح الأستاذ المساعد في علم التشريح في جامعة “بوينت لوما” في كاليفورنيا “جوي بلطا” أن “لدى الملح القدرة على تجفيف أي نسيج حي عبر امتصاص المياه، ما يقلّل من تكاثر الميكروبات”، مشيراً إلى أنه يمكن حفظ الجثة في الغرف الباردة لأسابيع من دون أن تُظهر علامات تحلّل، فيما “يتيح الملح فترات حفظ أطول”.
وسيكون تقرير رابطة معتقلي ومفقودي صيدنايا الدراسة الأولى والأكثر تفصيلاً حتى الآن حول الهيكلية الإدارية للسجن وآليات عمله وعلاقاته التنظيمية.
ويقدم التقرير الذي يعتمد على مقابلات مع عشرة معتقلين سابقين و21 عنصراً من الأجهزة الأمنية والعسكرية التابعة للنظام، شرحاً دقيقاً للبنية الإدارية والألوية العسكرية العاملة في صيدنايا، فضلاً عن خلفية عن مدرائه كافة.
وتقدّر الرابطة أن 30 ألف شخص دخلوا إلى سجن صيدنايا منذ اندلاع الثورة في العام 2011، وقد أفرج عن ستة آلاف منهم فقط، فيما يُعتبر معظم الباقين في حكم المفقودين، خصوصاً أنه نادراً ما يُبلّغ الأهالي بوفاة أبنائهم، وإن تمكنوا من الحصول على شهادات وفاة لهم، فإنهم لا يتسلمون جثثهم.