إصابات بالمئات وعجز طبي
“كانت الأم تبحث عن أطفالها فوجدتهم جثثاً هامدة، رأيت طفلاً بالقرب من عائلته.. مات الجميع وبقي هو يصرخ”
بهذه الكلمات استهل “مهند أبو خالد” الذي كان يعمل مسعفاً في مدينة دوما بغوطة دمشق الشرقية، مشاهداته ليوم من 21 آب عام 2013.
كان يوم الأربعاء حين بدأ الهجوم على بلدات عين ترما وزملكا وحي جوبر بصواريخ محملة برؤوس كيميائية لينتشر الغاز القاتل في كل من كفر بطنا وعربين وحمورية.
يستذكر “أبو خالد” تلك اللحظات قائلاً: “وردنا خبر استهداف منطقة زملكا بصواريخ كيميائية بفترة منتصف الليل، ككل ضربات الكيماوي جهزنا أنفسنا وكنا نتوقع ألا يصل الكثير من المصابين لوجود عدد من النقاط الطبية في المناطق التي تعرضت للهجمات، تفاجئنا أن الضربة أكبر من المتوقع، وأن أعداد المصابين بالمئات، كان الوضع مرعباً”.
وأضاف “كانت السيارات تصل محملة بعشرات المصابين المكدسين فوق بعضهم بعضاً، بعض سيارات الإسعاف خرجت إلى مناطق الاستهداف ولم تعد، أو عادت بعدما أصيب المسعفون، أول سيارة إسعاف فقدناها تلك الليلة وقتل كل من كان فيها، عملنا لأكثر من 6 ساعات متواصلات، المشهد كان مؤلماً وقاسياً لعشرات الجثث المتراكمة أمام النقاط الطبية، وللأشخاص الذين فقدوا عائلاتهم بالكامل تلك الليلة”
الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية أكد في ذلك الوقت أن اللواء 155 المتواجد في جبال القلمون هو مصدر إطلاق الصواريخ المحملة برؤوس كيماوية، والتي استهدفت الغوطة الشرقية ومعضمية الشام في الغوطة الغربية أيضاً.
صوت منخفض ولكن!
“داني قباني” شاب من معضمية الشام كان مناوباً تلك الليلة في المكتب الإعلامي لمدينة معضمية الشام يتابع أخبار الغوطة الشرقية لدمشق، وفي حدود الرابعة والنصف فجراً سمع صوت انفجار لكنه كان منخفضاً، بعدها بدقائق معدودة سمع أصوات صراخ وصوت انفجار آخر، لتتحرك سيارات الإسعاف إلى المنطقة المستهدفة في معضمية الشام.
يقول “قباني”: ” تواصل مع المشفى الميداني وأصدقائي في المكتب الإعلامي وعرفت موقع الاستهداف الكيماوي بدقة، فهرعت إلى هناك، إخوتي كانوا يعيشون على بعد 300م من مكان سقوط أحد الصواريخ، شعرت حينها بألم في عيوني، وصعوبة بالتنفس وحرقة بالصدر، كان يوم كما القيامة، الناس يركضون في مختلف الاتجاهات، رأيت رجلاً يحمل طفلاً راكضاً إلى المشفى، رأس الطفل يهز وهو غائب عن الوعي، الطفل كان كوردة مقطوفة، وهو أول ضحية للكيماوي أراها تلك الليلة”
تابع “قباني” طريقه إلى المشفى الميداني بأحد الأقبية، ليكون المنظر الكارثة، أرض القبو مغطى بأجساد المصابين، فبدأ بالبحث بينهم، ويقول: “رأيت ابنة عمتي غائبة عن الوعي تماماً، دون أي حراك، هي أم لخمسة أطفال، لم أعد أستطيع التفكير، نسيت أخوتي الذين لم أجدهم في منازلهم، نسيت عائلتي التي تركتها خلفي، وبدأت بالبحث عن أبناء قريبتي، وعمي وزوجته وابنته، كانوا يسكنون سوية، رأيت العديد من أقربائي مصابين، منهم من كان يهذي ومنهم من فقد حياته ومنهم من كان يرجف”
“قباني” كان أحد الناشطين الإعلاميين في مدينة معضمية الشام خلال تلك الفترة لكن هول الكارثة منعته من تصوير ما رأته عيونه وحفظته ذاكرته، لذا اكتفى بالبحث عن الأحياء بين الأموات ومساعدة المصابين في ظل عجز الكادر الطبي، والجميع دون استثناء يعمل ويبكي، من الذين حاول مساعدتهم عجوز حاول إنعاشه دون جدوى، بعد ساعة ونصف أصيب هو أيضاً، فقد القدرة على الرؤية والحركة وسقط على الأرض، أسعفته حينها إحدى الممرضات بحقنة “اتروبين” ليستعيد وعيه وقدرته على الحركة.
تبع قصف النظام بالسلاح الكيميائي هجوماً بالصواريخ والمدفعيات الثقيلة والطيران الحربي، ومحاولة لاقتحام مدينة معضمية الشام من جهة أوتستراد الأربعين، طريق (دمشق- القنيطرة)، إحدى استهدافات الطيران وقعت بالقرب من المشفى الميداني الذي ضرب في وقت لاحق، لذا بدأ “داني” بالمساعدة في نقل المصابين إلى المنازل المحيطة بالمشفى، وحول هذه اللحظة يستعيد مشاهداته قائلا: “رأيت عمي في أحد المنازل وابنته الصغيرة، كانا بحالة هستيرية، يتكلمون عبارات غير منطقية، عمي يصرخ يا نور حبيبي وين أنا؟ مرت عمك وينا؟ ابنة عمي تهذي يا نور مين أنا؟ شو صار؟ وما بين الهذيان والصراخ لم أتحمل الموقف، فخرجت راجعاً إلى منزلي.
مئات القتلى والقتلة أحرار!
وثقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان مقتل أكثر من 1100 شخص اختناقاً بينهم 1119 مدنياً و 99 طفلاً و194 امرأة كما أصيب 5935 شخصاً بأعراض تنفسية وحالات اختناق.
عند الحديث عن مجزرة كمجزرة الكيماوي في الغوطتين، لابد من التمييز بين الاستجابة الإعلامية والاستجابة الحقوقية بحسب مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان “فضل عبد الغني” والذي يعتقد أن استجابة المنظمات الدولية الأساسية كانت جيدة وساهمت المؤسسات الإعلامية بتغطية المجزرة، ولكن ذلك لا ينطبق على بعض المنظمات العربية المحسوبة على المقاومة والتي لا يمكن اعتبارها حيادية أو حقوقية حتى، بحسب “عبد الغني” الذي أكد أن موقف بعضها متوقع سواء من ناحية الصمت أو التبرير بما أنها تعمل ضمن أجندات سياسية.
وأضاف مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان لقناة حلب اليوم، أن التجاوب على المستوى الدولي والسياسي والذي يؤدي إلى اتخاذ موقف فعلي ضد نظام الأسد كونه استخدم سلاحاً من أسلحة الدمار الشامل، كان الأسوأ ومخيباً لآمال وتوقعات السوريين وذوي الضحايا.
واعتبر “عبد الغني” أن الموقف السلبي للدول شجع النظام على التوسع بارتكاب جرائم أخرى بحق السوريين، وساهم باتجاه فئة من المجتمع نحو التطرف والتشدد للشعور بعدم وجود عدالة حقيقية، مشيراً إلى أن التجاوب المبدئي ضروري ولكن الأهم هو التجاوب الثاني والذي يؤدي إلى ردع النظام ومعاقبته.
وتتعلق محاسبة النظام بقرار من مجلس الأمن أو من الدول في الحالات التي يمكن أن تتحرك خارج المجلس كما في تهديد الأمن والسلم الدوليين وخرق معاهدة حظر الأسلحة الكيميائية وفق مدير الشبكة الحقوقية، الذي استرجع تعهدات الرئيس الأمريكي بخصوص الخط الأحمر، والتي خذلها بحسب تعبيره.
وأرجع “عبد الغني” استمرار النظام بالهجمات الكيميائية على مدن وبلدات سورية بعد قرار مجلس الأمن 2118 إلى عدم وجود رد حقيقي ومساءلة للنظام، معتبرا أن جميع الإدانات والتصريحات السياسية غير مفيدة في ظل عدم وجود رد جازم.
أضواء في الأفق وانفجارات بأصوات غريبة
“محمد الحراكي” أحد سكان الغوطة ومدرب في الدفاع المدني السوري، كان يعيش في سقبا بغوطة دمشق الشرقية حيث يطل على منطقتي جوبر وزملكا، تلك الليلة كان يجلس مع عائلة عندما سمع صوت قصف من جهة القابون قرابة الساعة الواحد والنصف بعد منتصف الليل، لاحظ أن الصواريخ تضوي على غير العادة، وصوت انفجارها مختلف أيضاً.
بعد نصف ساعة من مشاهداته بدأت المساجد تطلق نداءات استغاثة “يا أهل النخوة يا أهل المروة الأسد ضرب زملكا بالكيماوي يلي عندو سيارة يتوجه على زملكا للإسعاف ويلي عندو خل ويلي عندو بطانيات يتوجه ويساعد بالإسعاف أعداد الإصابات كبيرة”
يسرد “الحراكي” لموقع حلب اليوم ذكرياته عن تلك الليلة قائلاً: “صار يخفق قلبي بقوة كبيرة
ما كان عندي غير الخل، أخذتو وركبت دراجتي الهوائية وتوجهت كنت عم شوف السيارات يلي عم تنقل الضحايا لبرا زملكا وعم شوف أعداد كبيرة كتير من الإصابات وصلت على نقطة طبية بطريقي وشفت منظر الناس المسطحة بالأرض.. الأطفال عم تختنق وعم يطلع الزبد من تمها، مع إني انتشلت ضحايا كتير من تحت الأنقاض وحملت أشلاء الأطفال كتير، بس هذا المنظر كان مختلف تماما حسيت للحظة إني رح انهار، حطيت قناع وركبت مع السيارة اللي نقلت الاصابات ورحنا على زملكا”.
ووصف مدرب الدفاع المدني السوري ذلك اليوم بالقيامة، فالأطفال والنساء وكبار السن مغشى عليهم، أشخاص يحملون الناجين من المنازل إلى الشوارع وآخرين يحملونهم إلى السيارات، طلب من الله القوة وبدأ بمساعدة الضحايا، ليكون شاهداً على مقتل مدنيين في منازلهم.
تابع “الحراكي” قائلاً: “كانت رائحة السلاح الكيميائي تختلط برائحة الموت، تسلل الغاز السام إلى أنفاسي فضعف بصري وضاق نفسي، ولم أعد أستطع الصمود أكثر، فقررت الخروج باتجاه زملكا كي أستنشق هواءا نظيفا، وفي سيارة الشحن التي حملتني، وحملت معي الضحايا، تأملت وجوههم، كأنما الرعب رسم آخر خطوطه في ملامحهم، كان هناك طفلا على قيد الحياة، يضع يداً على رقبته والأخرى على يدي وينظر إلي كمن يتوسل كي أساعده على التنفس، لكنني كنت عاجزاً”.
لم أر ذلك الطفل لاحقاً رغم أنني بحثت عنه، يضيف “الحراكي” الذي استعاد قوته بعد غسله بالماء وعاد إلى مساعدة الضحايا قبل أن ينهار تماما أمام إحدى النقاط الطبية.
آلية التحقيق المشتركة لم تحقق في مجزرة الغوطتين!
بعد شهر من ارتكاب مجزرة الغوطتين، أصدر مجلس الأمن القرار رقم 2118 والقاضي بسحب السلاح المحرم دوليا من سوريا، لتبدأ منظمة حظر الأسلحة عملها.
يوضح “أحمد الأحمد” المتحدث باسم مركز توثيق الانتهاكات الكيميائية في سوريا أن آلية التحقيق المشتركة لم تكن موجودة في ذلك اليوم لكن النظام اعترف بفعلته بطريقة غير مباشرة عندما أبدى استعداده للتخلي عن مخزون الأسلحة الكيميائية بحد قوله.
أما بالنسبة لآلية التحقيق المشتركة فقد حققت في هجمات أخرى لم تكن هجمة الغوطتين إحداها، بحسب “الأحمد”.
وأضاف “الأحمد” لقناة حلب اليوم أن صفقة سياسية ما بين الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا عقدت بعد الهجوم، وتقضي بأن يسلم النظام سلاحه الكيميائي مقابل ألا تستهدف أمريكا نظام الأسد بضربة عسكرية وفق المتحدث.
أما فيما يتعلق بالبعثة التي حققت جنائيا بالهجمات الكيماوية، وكانت مكونة من عدة جهات دولية هي مجلس الأمن والأمم المتحدة ومنظمة حظر الأسلحة الكيميائية، فوصلت إلى أن النظام مسؤول عن الهجمات الخمس التي حققت حولهن وأدانت هجوم تنظيم الدولة على مارع، بحسب الأحمد الذي أشار أن نظام الأسد استخدم السلاح الكيماوي في أكثر من منطقة بعد إعلانه تسليم مخزونه وهو دليل أنه مازال يملك جزءا منه، وهو ما ذكرته منظمة حظر الأسلحة الكيماوية خلال تقريرها هذا العام بوضوح .
وتابع “الأحمد” حول التقرير الذي يؤكد أن مواصفات غاز السارين الذي استهدفت فيه اللطامنة في آذار 2017 هو مطابق لغاز السارين الذي هوجمت به خان شيخون نيسان 2017 وهو مطابق لمواصفات المخزون الذي أعلن النظام التخلي عنه، أي أن منظمة حظر الاسلحة الكيماوية تعلم أن نظام مازال يحتفظ بجزء من المخزون الكيماوي وهو خرق للقرار 2118 والذي ينص على تدمير المخزون الكيماوي في سوريا.
ونوّه المتحدث باسم مركز توثيق الانتهاكات الكيميائية في سوريا إلى أن آلية إجبار النظام على الالتزام بالقرار 2118 هو تطبيق القرار 2235 والذي ينص على التدخل وفق البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة، مشيراً إلى أن البيروقراطية الدولية والفيتو في مجلس الأمن منعتا تطبيق ذلك “للأسف” بحسب قوله.
أما فيما يتعلق بسقوط هذا النوع من الجرائم بموجب التقادم، أكد “الأحمد” أنها لا تسقط بالتقادم لذلك فإن مركز توثيق الانتهاكات الكيميائية في سوريا يعمل على تحريك دعاوى قضائية ضد نظام الأسد أمام محاكم أوروبية متخصصة بجرائم الحرب الدولية، كما أن المركز وقع قبل عدة أسابيع مذكرة تعاون مع الآلية المحايدة والمستقلة التابعة للأمم المتحدة، والتي تعمل على بناء معايير جنائية دولية، كما سيقوم المركز قريبا بمشاركة الأدلة التي جمعها خلال السنوات السابقة معها، والتي بدورها ستقوم بتحليل البيانات بشكل ملف جنائي، ليستفاد منه أمام المحاكم الأوروبية التي تقبل الدعاوى القضائية المقدمة بهذه القضايا.
وثَّقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان في تقرير لها اليوم الجمعة 222 هجوماً كيماويا في سوريا منذ أول استخدام للسلاح الكيماوي في 22 كانون الأول عام 2012 وحتى تاريخ اليوم 21 آب 2020.
وذكر التقرير الذي نشرته الشبكة في الذكرى السابعة للهجوم الكيماوي على الغوطة الشرقية أن 98 من الهجمات الكيماوية في سوريا ارتكبتها قوات النظام و 2% تنظيم الدولة.
وقال التقرير إن هجمات قوات النظام تسببت بمقتل 1510 بينهم 205 أطفال و 260 سيدة، إضافة لإصابة 11080 شخصاً آخرين.