دعت الشبكة السورية لحقوق الإنسان إلى استبعاد الأفراد المتورطين في الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان من الحكومة السورية ومؤسسات الدولة، معتبرة أن هذه الخطوة تمثل شرطاً قانونياً وأخلاقياً أساسياً لإنجاح المرحلة الانتقالية بعد سقوط النظام في كانون الأول/ديسمبر 2024.
وقالت الشبكة في تقرير تحليلي بعنوان “الضرورة القانونية والأخلاقية لاستبعاد المجرمين من مؤسسات الدولة في المرحلة الانتقالية في سوريا”، إن الإصلاح المؤسسي يشكل ركيزة محورية في عملية العدالة الانتقالية، ويهدف إلى منع تكرار الجرائم واستعادة ثقة المواطنين في مؤسسات الدولة.
الإقصاء الإداري ضمان لمبدأ عدم التكرار
أوضح التقرير أن العدالة الانتقالية لا يمكن أن تتحقق في بيئة تحتفظ بالبُنى والشخصيات التي رسخت الاستبداد وشاركت في الانتهاكات، مؤكداً أن أي محاولة لإعادة بناء الدولة دون مساءلة أو تطهير مؤسسي حقيقي ستظل شكلية وقابلة للانهيار، ما ينذر بعودة الإفلات من العقاب وانتشار الانتقام السياسي والاجتماعي.
وقالت يمن حلاق الباحثة في الشبكة السورية لحقوق الإنسان، في تصريح لحلب اليوم: “لدينا قاعدة بيانات فيها أكثر من 16000 اسم لشخصيات متورطة بالانتهاكات، ونرغب في تسليط الضوء على جرائمهم، خصوصا في هذه المرحلة التي يفترض أن يبدأ فيها مسار العدالة الانتقالية أو المحاسبة، وأن تركز على القيادات العليا والمتورطين بالانتهاكات”.
وشددت الشبكة على أن الإقصاء الإداري للمتورطين لا يعد انتقاماً سياسياً، بل تجسيداً لمبدأ “ضمان عدم التكرار” المنصوص عليه في القانون الدولي لحقوق الإنسان، محذّرة من أن تجاهل هذا المبدأ سيسمح بعودة ثقافة الإفلات من العقاب داخل مؤسسات الدولة الجديدة.
تواطؤ بنيوي في مؤسسات النظام البائد
أشار التقرير إلى أن نظام الأسد حوّل مؤسسات الدولة إلى أدوات قمع، من القضاء إلى الإعلام والجيش والأجهزة الأمنية، مؤكداً أن الانتهاكات التي ارتكبت لم تكن أعمالاً فردية، بل نتاج تواطؤ بنيوي ومنظّم داخل أجهزة الدولة.
ووفقاً لبيانات الشبكة السورية لحقوق الإنسان، قُتل ما لا يقل عن 202,021 مدنياً، وسُجلت 160,123 حالة اعتقال تعسفي واختفاء قسري، وتوفي 45,031 شخصاً تحت التعذيب، بينما نُفذ 217 هجوماً كيميائياً و254 هجوماً بذخائر عنقودية، إضافة إلى إلقاء أكثر من 81,954 برميلاً متفجراً، ما تسبب في تهجير أكثر من 13.8 مليون سوري داخل البلاد وخارجها.
وأوضحت الشبكة أنها وثّقت تورط 16,200 شخص في هذه الانتهاكات، بينهم قادة أمنيون وعسكريون، وقضاة، وعناصر من ميليشيات رديفة، وشخصيات إعلامية واقتصادية وثقافية وفنية موالية للنظام، وفرت الغطاء الإعلامي والاجتماعي لسياساته القمعية.
وقالت حلاق، إن إعادة تسليط الضوء على جرائم هؤلاء، “تأتي في سياق مطالبتنا بالعدالة الانتقالية” منوهة بأن “قرارات العفو تزيد الغضب الشعبي لأننا إن لم نرَ مسارات محاسبة حقيقية، فمن الممكن جدا أن تزيد عمليات الانتقام الفردية”.
ونوهت بأن الشبكة تتفهم أن الحكومة في هذه المرحلة ربما تُضطر لأن تتخذ مثل هذه الإجراءات (إطلاق سراح بعض الموقوفين) لأن البعض منهم ساعد أو قدّم تسهيلات لعملية ردع العدوان، كما أن هناك مئات آلاف المتورطين ومن الصعب محاسبة الجميع، لكن المطلوب من الحكومة الشفافية والوضوح مع الناس بشأن الخلفيات التي تصدر على أساسها قرارات العفو.
كما أن إصدار العفو بهذه الطريقة يعني – وفقا لحلاق – عدم وجود مسارات قانونية محددة للعملية، خاصة مع إطلاق سراح ضباط قالوا إن أيديهم لم تتلطخ بالدماء ولم ثبت تورطهم بانتهاكات.. “يجب التوضيح للناس؛ على أي أساس لم يثبت تورطهم بالانتهاكات؟ من المفترض أن لجان السلم الأهلي أو وزارة الداخلية هي المخولة بأن تثبت ذلك أو تطلق سراح هؤلاء فهي مهمة القضاء الذي يفترض أن يكون مستقلا.. العملية كلّها لم تتم بشكل قانوني واضح وليس فيها شفافية”.
وأكد التقرير أن استبعاد المتورطين في الجرائم والانتهاكات من مؤسسات الدولة هو ضرورة قانونية وأخلاقية مستمدة من مبادئ القانون الدولي لحقوق الإنسان، وليس إجراءً عقابياً، مستشهداً بقرارات المحكمة الأوروبية والمحكمة الأمريكية لحقوق الإنسان التي أقرت بشرعية “التطهير المؤسسي” بشرط الالتزام بمعايير العدالة والنزاهة القانونية.
وأضاف أن الإبقاء على المتورطين في الانتهاكات داخل مؤسسات الدولة يمثل “طعنة في جسد العدالة” و”إهانة لضحايا تلك الجرائم”، لأنه يفتح الباب أمام إعادة إنتاج الاستبداد ويفرغ مسار العدالة الانتقالية من مضمونه.
إطار عملي لتدقيق الجهاز الإداري
اقترحت الشبكة نموذجاً عملياً لتطهير وتدقيق مؤسسات الدولة يقوم على تقسيم مستويات التورط إلى ثلاث فئات رئيسية؛ المستوى الأول: استبعاد دائم وإلزامي لكبار القادة المتورطين مباشرة في الانتهاكات الجسيمة. المستوى الثاني: استبعاد مفترض مع إمكانية الاستئناف لمن شارك أو برّر الانتهاكات بصورة غير مباشرة. المستوى الثالث: مراجعة فردية للموظفين الأدنى رتبة مع إمكانية إعادة إدماجهم وفق معايير صارمة.
وشدد التقرير على أهمية الفصل بين المساءلة الجنائية والتدقيق الإداري، موضحاً أن الهدف من الأخير هو استعادة شرعية مؤسسات الدولة وثقة المجتمع بها، وليس فرض عقوبات قضائية.
كما دعت الشبكة المجلس التشريعي القادم إلى إصدار “قانون خاص بالتطهير والتدقيق الوظيفي”، يضمن تقييم المسؤوليات الفردية ومعايير العدالة والشفافية، مع إشراك المجتمع المدني ومجموعات الضحايا في صياغة وتنفيذ القانون.
كما حذرت الشبكة من أن “الإبقاء على الجلادين في مواقع السلطة لا يشكل تهديداً للضحايا فحسب، بل خطراً على مستقبل سوريا بأكملها”، مؤكدة أن بناء دولة ديمقراطية يتطلب تفكيك إرث الاستبداد السياسي والمؤسسي وإعادة تأسيس علاقة جديدة بين الدولة والمجتمع تقوم على العدالة والمساءلة.