أصدر القضاء الأمريكي حكمًا بالسجن على رجل من كاليفورنيا، منذ أيام، هرّب “فسيفساء هرقل” التي تزن 2000 رطل (907 كيلو) من سوريا، وهي عبارة عن عمل فني تاريخي يعود تاريخه إلى الإمبراطورية الرومانية، ما يثير الأسئلة حول كيفية قدرة الجاني على نقل هكذا قطعة، لكل تلك المسافة؟.
وزارة العدل قالت إن المدعو “محمد ياسين الشريحي” سيسجن لمدة ثلاثة أشهر فقط، بعد أن حكم عليه القاضي يوم الخميس الماضي بتهمة “الكذب على الجمارك بشأن الفسيفساء”، مع العلم بأن ثمنها يقرب من نصف مليون دولار، كما أنه متورط في نقل الكثير من القطع سابقا.
وحول ذلك قال الصحفي السوري المهتم بملف الآثار، عمر البنية، لموقع حلب اليوم، إن هناك شبكة دولية كاملة متورطة في تهريب آثار البلد، وإن العملية تتم تحت إشراف القصر الجمهوري برعاية بشار وأسماء الأسد.
ويبلغ طول القطعة الأثرية المهربة 15 قدما وعرضها 8 أقدام، وقالت السلطات الفيدرالية إن الشريحي اشتراها مع قطع أخرى في عام 2015 بحوالي 12000 دولار فقط.
سوق رائجة
يتعدى الموضوع الحديث عن عمليات تهريب هنا وهناك، حيث إن هناك “سوقا رائجة في أوروبا و
أمريكا والدول الغربية”، وذلك لأسباب أهمها تواطؤ “المديرية العامة للآثار” التابعة لسلطة الأسد، التي رفضت طلب الإنتربول الدولي تزويده بأوصاف وأرقام القطع الأثرية السورية، بحجة أنها لا تملك الأرشيف، وإنها بحاجة لمخاطبة البعثات الأجنبية التي نقبت عن الآثار، وفقا للبنية.
كما أكد الاخير أن المديرية أتلفت السجل الخاص بالآثار الذي كان لديها وأحرقت الأرشيف في عام 2017، مما سهّل هذه التجارة في أوروبا وساعد المهربين على الإفلات من السلطات المحلية هناك، ومن الإنتربول.
أما تهريب اللوحات فهو موضوع قديم، وكان يحدث منذ قبل عام 2011، حيث وقد “شاهدنا هذا الشيء في تصريح للمرحوم المهندس سطوف الحسين، رئيس لجنة المخالفات بإدارة آثار الرقة سابقا، حيث قال في فيلم وثائقي بعنوان “جريمة ضد التاريخ” عرض على قناة الجزيرة، حيث أكد أنه وجد لوحة فسيفسائية وقاسها ليجد قياسها نحو 16 مترا، وأبلغ المديرية العامة بهيئة القطع الأثرية عنها، ولكنها تلك اللوحة اختفت من المديرية العامة وتم تحديد صاحب الارض، وتهديد الشخص الذي وجد تلك القطعة الأثرية وخربت القطعة من البلاد دون أن يبقى لها أثر”.
ووفقا لبيان الوزارة الأمريكية فإن الشريحي استورد في إب/ أغسطس من عام 2015، “بشكل غير قانوني الفسيفساء من خلال تصنيف خاطئ لقيمتها وجودتها، ووصلت بتوجيه منه إلى ميناء لونغ بيتش كجزء من شحنة من تركيا”.
وأدانته هيئة المحلفين في 21 يونيو 2023، بتهمة “إدخال بضائع مصنفة بشكل خاطئ”، بعد محاكمة استمرت خمسة أيام، وفقا لسجلات المحكمة، وقالت الوزارة إن هو وافق أيضا على طلب الحكومة يوم الخميس بمصادرة الفسيفساء، بحسب ما نقلته قناة الحرة الأمريكية.
ودفع الشريحي حوالي 40 ألف دولار لترميم الفسيفساء، فيما تبلغ قيمتها الحالية 450 ألف دولار، وفقا للمصدر نفسه، ووفقا لشكوى مصادرة في مايو 2018، قال محامون أميركيون إن الأخير كذب على وسيط خارجي بشأن قيمة الفسيفساء وقام بشحنها إلى الولايات المتحدة مع 81 مزهرية وثلاثة قطع من الفسيفساء.
وقال إن “الفسيفساء تم نزعها من أرضية قبل 25 عاما واستغرق الأمر 10 سنوات لإخراجها من تركيا لأن القوانين تغيرت هناك”، وفقا لوثائق المحكمة، وقال أيضا إن الفسيفساء كانت “ملفوفة” لمدة 25 عاما، وأبلغ خبير بالآثار سلطات إنفاذ القانون أن العناصر الثقافية المنهوبة من سوريا تم توجيهها عبر تركيا منذ عام 2012 تقريبا، وأن القطعة تلك كانت نادرة.
واعترف أيضا بشراء 80 مزهرية تحطمت عند وصولها إلى الولايات المتحدة، وفسيفساءين، وفسيفساء هرقل المنهوب وقطعة أصغر غير معروفة مقابل 12000 دولار، وفقا لوثائق المحكمة.
من المسؤول؟
تسلط الأرقام السابقة الضوء على حجم الآثار الضخم والتي يتم نهبها من سوريا باستمرار، وكيف يمكن أن يحدث ذلك دون تواطؤ من سلطة الأسد؟.
ويلقي الصحفي السوري باللوم أيضا على الجهات المسيطرة على مناطق الشمال السوري، متسائلا أين هي وأين دورها في إحباط عمليات التهريب؟ حيث هناك “جهات أمنية تابعة للمعارضة تقول إنها حامية للآثار وتتلقى التمويل من جهات دولة.. أين دورها ولماذا لم تقم بأعمال توثيق للمواقع الأثرية والمفقودات والحفاظ عليها؟”، مضيفا أن هذا السؤال هو “برسم تلك الجهات.. للأسف هناك تقصير من كل الأطراف في حماية إدلب”.
لكن المتورط الأكبر في العملية هي سلطة الأسد، حيث “يلعب معاون وزير الثقافة الأسبق، عبد الرزاق معاذ، ومجموعته دورا أساسيا في الملف، وقد تصدر المشهد خلال الفترة السابقة بدعوى “حماية التراث”، كما يؤسس اليوم جمعيات تحت اسم “سوريون من أجل التراث” في مناطق سيطرة الأسد، وبتعاون من وزارة الشؤون الاجتماعية”.
ويصرح معاذ بعلاقاته مع وزيرة الثقافة بسلطة الأسد، لبانة مشوح، وهي مستشارة بالأمانة السورية للتنمية المملوكة لأسماء الأسد، وتعتبر إحدى أذرعها لتنفيذ مخططاتها الرامية لنهب الأموال السورية.
رأس الأفعى
يطرح الخبر الذي أوردته القناة الأمريكية سؤالا مهما مفاده؛ كيف يمكن لشخص واحد نقل لوحة تزن ما يقرب من الطن لآلاف الأميال برا وبحرا وربما جوا، ويتجاوز كل حدود كل البلدان الفاصلة بين سوريا والولايات المتحدة؟ ما لم تكن هناك شبكة دولية منظمة؟.
يقول البنية إن “التراث الثقافي السوري استخدم كسلعة مع الأسف.. واليوم نرى علاقات بين أشخاص كانوا يقولون سابقا إنهم من المعارضة واليوم صاروا يصرحوا بعلاقاتهم مع وزير ثقافة الأسد”.
ويؤكد أن هناك “عصابات قديمة جديدة” تعمل في مجال تهريب الآثار منذ زمن بعيد، موضحا أن “أكبر جهة متورطة هي المديرية العامة للآثار والمتاحف المعروفة بارتباطاتها بالقصر الجمهوري”.
وهناك فئة داخل القصر مختصة بملف تهريب الآثار السورية، تضم كبار ضباط القصر والمخابرات التابعة لسلطة الأسد، تحت إشراف كل من بشار وزوجته، كما أن حزب الله متورط في القضية بشكل مباشر.
وكان “مأمون عبد الكريم” اﻷستاذ في قسم اﻵثار بجامعة دمشق، والذي شغل منصب المدير العام لمديرية اﻵثار والمتاحف، قد ادعى أن كميات من اﻵثار السورية تمّ استخراجها من منطقة شرق الفرات، ونُقلت إلى القواعد اﻷمريكية هناك بالتعاون مع “قسد”، قبيل توجّهها نحو القواعد العسكرية بالعراق في طريقها نحو الخارج.
ويوجد عدد لا حصر له من القطع اﻷثرية السورية والعراقية في المتاحف الغربية، والتي وصلت إلى هناك بطرق مجهولة، إلا أن “البنية” يؤكد تماماً أن سلطة اﻷسد هي المسؤول اﻷول عن هذا الواقع.
ووصف الصحفي السوري تصريح “مأمون عبد الكريم” بأنه “عبارة عن استغلال سياسي لملف اﻵثار لا أكثر ولا أقل”، مضيفاً: “إذا كان يتهم اﻷمريكيين بسرقة اﻵثار فماذا كان يعمل قبل سنتين أو ثلاثة في الحسكة عندما التقى برئيس هيئة اﻵثار في “قسد” والتقط معه الصور، وهو يعلم أنها مدعومة من قبل اﻷمريكيين؟”.
وأكد أن “مستودعات البعثات اﻷثرية العاملة في المنطقة فُرّغت تماماً من محتوياتها في تلك الفترة التي كان ‘عبد الكريم’ موجوداً فيها بالحسكة، بينما لم تقم قسد بإعداد قوائم أو تصاريح عن الموضوع”.
وشدّد على وجود تعاون بين سلطة اﻷسد و”قسد” في ملف النهب المنظم للآثار، مستشهداً بـ”دليل قاطع وهو الصورة المشتركة لمأمون عبد الكريم ورئيس هيئة اﻵثار لدى قسد”، حيث “كان عبد الكريم يعمل في مشاريع مشتركة مع أسماء اﻷسد”.
وفي مؤشر آخر على قربه من أسماء اﻷسد والقصر الجمهوري ورأس السلطة، ظهر “عبد الكريم” بين الحضور في “خطاب القسم” اﻷخير لـ”بشار اﻷسد”، والذي ألقاه بعد إعادة تنصيبه.