صهيب طلال إنطكلي كاتب، ومشرف تعليمي في مؤسسة تعليم بلا حدود مداد
دخلَ اليومَ إلى المدرسةِ في عِزّ الظّهرِ، كادت درجاتُ الحرارةِ أن تخترقَ عقلهُ لولا كتابُ العلومِ الذي وضعه بيمينه فوقَ رأسِه فأظلّه أو يكاد.
|حسن”، مِن أشهرِ مدرّسي مادّة العلومِ على الإطلاق، إنْ لم يكن أشهرهم، لقد امتدت مسيرتُه التعليميّة قبل الثّورةِ عشرين عامًا، وبعد الثورة بعدد سنواتها، ما يزهو عن ثلاثة عشر عامًا، وهو اليوم على رأس عمله فقد دخل إلى المدرسة – كما أخبرتُكم- في عزّ الظهر.
كان الطريق من بابِ المدرسة الخارجي مرورًا بباحتها وصولًا للشعبةِ الأولى التي سيدخُلها أولًا، كان الطريق كفيلًا بأن يمررَ فكرتَينِ أو ثلاثًا من الأفكار التي تتضوّجُ في عقلِ الأستاذ العتيق،… “علامات ابنتي سلمى حُجبتْ عنها، لأني لم أستطع أن أؤمّن لها القسط، أخبرتني أنّ موظفَ الجامعة قال لها وهو يدور بكرسيّه كالطاووس: “رجاءً لا تحرجيني، علاماتك محجوبة، وأنا لا يمكنني مساعدتك، إذا علموا أنّي سرّبتُ علامات سيفصلونني من عملي، أرجوكِ لا تحرجيني”، همهمَ الأستاذ حسن، وهو يكاد يصل للشعبةِ الأولى: “وعدتُ ابنتي سلمى أن أعطيها شيئًا من قسطها، على رأس الشهر حينما أستلمُ الراتب”، نعم” الراتب قادم بإذن الله، لبّيكِ يا سلمى، ولاحت دمعةٌ في عينِ الأستاذ حسن الواسعة، أيُّ أبٍ أنا! وابنتي تتوسل علاماتها في الجامعة؟! دخل الأستاذ حسن الصّفّ وهو كظيم، يشكو بثه وحزنه إلى الله، ولكن “الرّاتب” القادم نهاية الشهر يعطيه بعض الأملِ للخروج من هذا النفق المظلم، تمالك الأستاذ حسن أفكاره التي تنقرُ دماغه نقرًا، وما ذنبُ الطلاب! وبدأ درس العلومِ كعادته يعطي بكلّ وجدان وحيوية كأنّ شيئًا لم يكن، في نصف الدرس لمحَ حذاءه العتيق يُداري شقوقه حتى لا تظهرَ للطلاب، لقد أمعنَ في طلائه ليبدو جديدًا ولكن طولَ الخَطوِ فيه سنينَ وكثرةَ الطرقات التي دقّته، كانت أكبر من محاولات الطلاء لإكسابه شبابًا، فكّر الأستاذ حسن بإصرار: “عندما أستلم الراتب، سأشتري حذاءً جديدًا فورًا، وليكنْ ما يكون، منذ سنتين وأنا أؤجلُ الحذاء، لن أصبر أكثر من ذلك”، بدا الأستاذ حسن في الصف كَمَن أخذتهُ عَبرةٌ ثم صحا، ليتم درسه ويخرج، في الحصة الثالثة، شعر الأستاذ بالتعب، إنّه يذهب إلى البيت ماشيًا ويأتي مدرسته ماشيًا، لقد تعب من المشي، والدليل اهتراء حذائه، فكر بسيارته العتيقة التي تعود للثمانينيات، ورغم أنها عتيقة إلا أنها كانت تفي بحاجاته، “تحمِلُه إلى أمكنةٍ لم يكن ليبلغها إلا بشِقّ الأنفس، ولكنه اضطرّ لركنها طويلًا،” لقد أصبح الوقودُ غاليًا جدًّا، وهناك ما هو أهمّ منه، فكرّ الأستاذ حسن بإصرارٍ مرّةً أخرى: “عندما أستلم الراتب سأملأ خزان الوقود في السيارة، وليكن ما يكون، لقد تعبتُ من طول المسير، وأصبحت سيارتي مصدر ألمٍ لي وأنا أراها مركونةً على باب بيتي المستأجر تأكلها الغبار كجثةٍ هامدة، عند استلام الراتب سأملؤها بالوقود، وليكن ما يكون”، انتهى اليوم الدراسي وقد أثقلت الأفكار كاهل الأستاذ العتيق، مرّ أمامَ بائع الخضار والفواكه، تذكر أنه لم يُدخل الفاكهة إلى بيته منذ حين؛ قال بإصرار:” عندما أستلم الراتب سأشتري أولًا فاكهةً وموزًا وتفاحًا ورمّانا، وليكن ما يكون”، مرّ أمام الحلاق في طريقه، تلمس شعرَه الأشعث الطويل: قال بإصرار: عندما أستلم الراتب سأقص شعري أوّلًا وأهذبه، أنا أستاذ ويجب أن أكون أنيقًا وليكن ما يكون”، مرّ بعد ذلك على سوق الألبسة، لا بد أن يشطرَه نصفين ذاهبًا أو عائدًا، لأنه يقع على طريقه لا مفرّ، نظر الأستاذ حسن إلى ثيابه الرّثة، تذكر أنّ آخر قميص اشترته له زوجتُه منذ ثلاثة أعوامٍ ودون إرادة منه، تذكر أنّه يومها عاتبها بشدّة: “يا بنت الحلال، هناك أشياء ألزمُ من قميصٍ جديد”، وهي تهمهم:”والله لولا أنّ قمصَيك تمزّق لما اشتريتُ جديدًا”، قال الأستاذ حسن بإصرارٍ أكبر من الإصرارات السابقة: “عندما أستلم راتبي سأشتري أولًا وقبل كل شيءٍ قميصًا وبنطالًا، وليكن ما يكون؛ لقد صرتُ أخجل من لباسي أمام طلابي”، على باب البيت لاقى الأستاذ حسن صاحب البيت؛ تذكر أنّه لم يدفع الآجار منذ شهرين؛ ابتسم الأستاذ في وجه صاحبه من بعيد، يحاولُ أن يبديَ بشرًا وهو كظيم، وعندما وصل إليه، مدّ يده ليصافحه، فطاشت يدُه لأنها لم تلق يدًا تتلقّفها: تمالك الأستاذ حسن نفسه، وحاول أن يبتلعَ ريقه فلم يعثر عليه، لقد ذهبتْ حرارةُ الشمس ببعضه، وذهب الباقي مع هذا الموقفِ المؤلم، قال لصاحب البيت بإصرارٍ أشدّ من كلّ إصرار مضى: “عندما أستلم راتبي سأعطيك آجار شهرين متتابعين، واللهِ سأعطيك قبل كلّ شيء، وليكن ما يكون” .
مرّت أيامُ الشهر طويلةً متعبةً، وبدا رأس الشهر كسرابٍ بقيعةٍ يحسبه الظمآن ماءً، ولكنه أتى أخيرًا، مشى الأستاذ حسن إلى محاسب المدرسة بخطواتٍ مثقلةٍ بالأفكار، وصل إليه، وقف بين يديه كقطةٍ أنهكها الجوع بعد ليلٍ طويل قضتهُ في العراء، كان يعدّ الراتب وكأنه يودعه قبل أن يشيّعه إلى مثواه الأخير، لم تبدُ على وجه الأستاذ حسن أيُّ علامة فرح باستلام راتبه، دسّه في جيبه العتيق وخرجَ من باب المدرسة هائمًا على وجهه، تذكر ابنته التي حُجبت علاماتها، وتلمسَ شعره الأشعث، ونظر إلى حذائه العتيق، ولباسه الرّث، تذكر الفواكه المشتهاة، ثم تمثّل له صاحب البيت كماردٍ خرج توًّا من مصباحٍ عتيق، شعر الأستاذ بدوار وهو يتذكر الوقود المشتهى لسيارته العتيقة، تلمس الأستاذ راتبه وعدّه عدًّا، إنّ قلبه ينبضُ بشده، الشمس حارّة جدًا، شعر الأستاذ بدوار أكثر شدّة، ثم غابَ، ولم يشعر بنفسه، إلا في المستشفى، الطبيب يقول: يا أستاذ حسن، كم مرة أخبرتك أنّ عليك أن تجري العملية وأنت تؤجلها، فكر الأستاذ حسن، قال في روحه: “صحتي أولًا، أخرجَ من جيبه الراتب، وهو يرتعش قال بإصرار للطبيب: لقد استلمت راتبي اليوم؛ وسأدفعه كدفعة أولى للعملية الجراحية، نعم، وليكن ما يكون.