د. محمد مختار الشنقيطي أستاذ الفكر السياسي في جامعة قطر
أولا: ينبغي الابتعاد عن لغة التعميم وانتهاك الأعراض الجماعية، مثل القول: “إن تركيا دولة عنصرية” أو “إن الشعب التركي شعب عنصري”. صحيح أنه توجد عنصرية في تركيا كما توجد في كل دول العالم، لكن الحديث عن ذلك بلغة تعميمية خطيئة أخلاقية وخطأ إستراتيجي.
ثانيا: ينتمي الرئيس أردوغان نفسه وفريقه الحكومي والحزبي إلى ذلك القطاع العريض من الشعب التركي الذي عانى سابقا من التمييز والتهميش داخل بلده، وعلى أيدي مواطنين من بني جلدته. فهم حليف أخلاقي وإستراتيجي للعرب ضد العنصرية والتمييز والتحيز.
ثالثا: إن قسما كبيرا من الشعب التركي حليف للعرب ضد العنصرية، وهؤلاء هم السواد الأعظم، والعمق الاجتماعي الذي ظل مهمَّشا طيلة القرن العشرين. ويجب مدُّ يد التعاون مع هؤلاء، بدل مساعدة العنصريين عليهم، بضمِّهم معهم في سلة واحدة، “فلا تعينوا الشيطان على أخيكم”.
رابعا: يجب ألا ننسى أن تركيا بقيادة أردوغان ضحَّت في دعم الشعوب العربية بعلاقاتها السياسية والاقتصادية مع عدة دكتاتوريات عربية لعَقْد من الزمان. واستقبلت ملايين العرب المهجَّرين من أوطانهم، فكفلت لهم العيش في أمان وحرية، بعد أن ضاقت بهم بلدانهم، واضطهدَتهم أوطانهم.
خامسا: أن تركيا بقيادة الرئيس أردوغان وقفت مع الثورة السورية ومع الثورات العربية في ساعة العُسرة، وبذلت ثمنا سياسيا واقتصاديا ودبلوماسيا باهظا، جرَّاء هذا الموقف المبدئي والإستراتيجي المنحاز لحرية الشعوب العربية وكرامتها. فلا يجوز نسيان ذلك لمجرد وجود تقصير اليوم هنا أو هناك.
سادسا: أن التقارب الأخير بين تركيا وعدد من الدول العربية مكسب إستراتيجي لمجمل الأمة يجب الحرص عليه. ومن الحكمة الفصل بين الخلاف السياسي داخل الدول ضمن سعي الشعوب للحرية والكرامة، والتناقض الإستراتيجي بين الدول، الذي هو دمار للأمة كلها، وفتح لأبوابها أمام كل عدوّ طارق.
سابعا: لا تبدو الإثارات العنصرية في تركيا مؤخرا بعيدة عن سعي بعض القوى الدولية إلى استمرار الانشطار الإستراتيجي في المنطقة، لكي تظل هذه المنطقة حزاما متصدعا مستباحا لمطامع القوى الدولية ومطامحها، كما بينتُه في دراستي الأخيرة “شروق الشرق وغروب الغرب” الصادرة مؤخرا بالعربية والتركية.
كلمة أخيرة بحق اللغة العربية: لا خوف على اللغة العربية في تركيا، فهي لغة باقية في الأناضول ما بقي فيه قارئ للقرآن، أو صادح بالأذان. فقد ظل الإسلام -وسيظل- درعا حصينة للغة العربية في تركيا وفي العالم الإسلامي كله. وقد عبَّر عن ذلك الكاتب اللبناني الفرنسي أمين معلوف -وهو متحدِّر من أسرة مسيحية عربية تركية- في كتابه “الهويات القاتلة” فقال: “عندما نكون في آسيا الوسطى، ونصادف علَّامة عجوزا على عتبة مدرسة تيمورية، يكفي أن نتوجه إليه بالعربية ليشعر بالطمأنينة، ويتحدث من قلبه، مثلما لن يجازف أبداً بفعله بالروسية أو بالإنجليزية.”
خلاصة الأمر أن على المتابع العربي والمسلم المنفعل بحوادث العنصرية الأخيرة في تركيا ضد العرب والأفغان والأفارقة وغيرهم، أن يتسلح بفهم أدقَّ للديناميكيات الداخلية التركية، ومنها ثنائية “الأتراك البيض” و”الأتراك السود”. من المهم جدا فهم التشكل التاريخي لظاهرة العنصرية في تركيا، ومنطقها الداخلي الموجَّه ضد السواد الأعظم من المواطنين الأتراك المسلمين أنفسهم، والتعامل معها بحاسَّة إستراتيجية واعية، والسعي إلى بناء تحالفات سياسية واجتماعية وثقافية عريضة في الداخل التركي ضد هذه العنصرية، بدلا من الانفعال والارتجال، وردود الفعل المتشنجة التي تضر ولا تنفع، وقد تزيد من تفاقم الظواهر السلبية بدل احتوائها.