صورة من تهجير أهالي أحياء مدينة حلب الشرقية
أربع سنوات مضت، لم تستطع أن تُنسينّ أحداً مأساة ربما كانت الكبرى من نوعها في العصر الحالي، لم يكن تهجيراً فقط.. بل جمع إلى فظاعته أيضاً القتل والمجازر والترويع والمعارك العسكرية، وحصاراً خانقاً مطبقاً على عشرات آلاف المدنيين، وفقدان لمعظم الأغذية والأدوية وحليب الأطفال، وانهيار تام للمنظومة الصحية.
واقع ما قبل التهجير..
عاشت الأحياء الشرقية من مدينة حلب، حصاراً خانقاً، فرضته عليها قوات النظام وروسيا والميليشيات المدعومة من إيران و”وحدات حماية الشعب”، واستمر الحصار نحو أربعة أشهر، عانى فيه أهالي المدينة فقدان الأغذية والأطعمة والأدوية وحليب الأطفال، بالإضافة إلى ندرة توفر مياه الشرب والكهرباء والوقود.
لم تكن هذه كل المعاناة، بل رافق تدهور وضع أهالي أحياء مدينة حلب الشرقية، عمليات عسكرية وقصف جوي ومدفعي وصاروخي – لم يتوقف أساساً-، وحرب إعلامية مدروسة لترويع الأهالي والفصائل، كل ذلك على مرأى ومسمع المجتمع الدولي الذي لم يبخل بتقديم التصريحات والتنديدات والتحذيرات!
مراحل ما قبل التهجير..
بعد أن عاشت أحياء حلب الشرقية هدنة لمدة قاربت الشهر، وبعد فشل مفاوضات المبعوث الأممي “ديمستورا” حول خروج مقاتلي (فتح الشام / جبهة النصرة) من المدينة والبالغ عددهم عشرات العناصر فقط، بسبب رفضهم الخروج، أعلنت روسيا في 23/10/2016 استئناف عملياتها العسكرية وضرباتها الجوية على مدينة حلب، مستهدفة المناطق السكنية والمستشفيات الطبية وما تبقى من بنى تحتية في هذه الأحياء.
بعد قصف روسي مكثف.. بدأت قوات النظام بمساندة من ميليشيات إيرانية وعراقية ولبنانية وفلسطينية، في منتصف شهر تشرين الثاني، بالهجوم البري على أحياء حلب الشرقية الواقعة تحت سيطرة فصائل المعارضة، وتمكنت في 27 و28 من الشهر ذاته من السيطرة على أحياء مساكن هنانو والحيدرية والإنذارات والصاخور، بينما سيطرت “وحدات الحماية” على أحياء بعيدين وبستان الباشا وعين التل والهلك.
وفي 12/12/2016 كانت قوات النظام قد سيطرت على أحياء الشعار والمرجة والشيخ لطفي وباب النيرب وباب الحديد ومعظم أحياء حلب القديمة والشيخ سعيد والصالحين والفردوس والجلوم والمعادي، وبذلك تم حشر عشرات الآلاف من السكان والمقاتلين في 6 مناطق فقط هي: (صلاح الدين، والأنصاري، والسكري، والعامرية، وجزء من سيف الدولة، وجزء من الإذاعة)، بمساحة لا تتجاوز 2 أو 3 كيلو متر مربع.
تهجير قسري برعاية دولية..
بعد اشتداد الوضع على الأهالي والفصائل، اضطروا للموافقة على مبدأ التهجير القسري لعدم وجود بديل عنه، وكانوا قد رفضوا قبل ذلك خلال أسابيع عديدة الخروج عبر معابر أعلنت عنها روسيا ونظام الأسد، حيث لم يأمنوا على أنفسهم من الاعتقال أو الإعدام الميداني، فيما استهدف برصاص القناصة العديد ممن حاولوا الخروج.
بدأ الحديث عن التهجير، بتسريبات عن مقترح أمريكي – روسي في 11 كانون الأول، بخروج الفصائل من المدينة مع من يرغب من الأهالي، ثم تطور هذا المقترح إلى اتفاق على إخراج كل سكان المنطقة برعاية روسية – تركية.
مفاوضات التهجير..
تمت المفاوضات بعد أن عينت الهيئات الثورية وفصائل المعارضة القائد العسكري “الفاروق أحرار” ممثلاً عنهم، فيما مثّل النظام رئيس اللجنة الأمنية لديه اللواء “زيد صالح”، ومثل روسيا الجنرال “فلاديمر سافتشينكو”، بحضور وسيط من النظام يدعى “عمر رحمون”، وتم التعهد بوقف إطلاق النار أثناء تنفيذ الاتفاق وضمان سلامتهم، فيما تكفل الصليب الأحمر إلى جانب الهلال الأحمر بالقيام بعمليات الإجلاء كطرف محايد, ليبدأ عقب ذلك بدأ خروج أول دفعة في منتصف 12/2016.
عملية التهجير..
مع خروج القافلة الأولى من مهجري أحياء حلب الشرقية، اعترضت ميليشيات إيرانية ومن حزب الله اللبناني القافلة واحتجزتها وقامت بالتنكيل بالعديد من أفرادها واختطفت البعض الآخر، وأطلقت النار على إحدى سيارات الإسعاف وأوقعت ضحايا بين المدنيين، وعطلت خروج الدفعة الأولى وأعادتهم إلى الحصار مطالبة بضم أهالي بلدتي (كفريا والفوعة) المواليتين في ريف إدلب إلى الاتفاق، والموافقة على خروجهم إلى مناطق سيطرة النظام.
بعد الحادثة.. تعدّل اتفاق تهجير أهالي حلب الشرقية، حيث اتُفق على تهجير نصفهم مقابل إخراج دفعة تضم 1250 شخصاً من الفوعة وكفريا، ثم تهجير النصف الآخر مقابل إخراج 1250 شخصاً أيضاً من البلدتين، بينما ستضم الدفعة الثالثة 1500 شخص من الفوعة وكفريا، يقابلهم 1500 شخص من مدينتي مضايا والزبداني في ريف دمشق.
مراحل التهجير..
وصلت في أول يوم للتهجير قافلتان من مهجري حلب المحاصرة، من الراموسة إلى منطقة الراشدين في ريف حلب الغربي، ترافقها سيارات الهلال الأحمر السوري، وخلال ثاني يوم خرجت من حلب 5 قوافل أخرى إلى الريف الغربي، وبذلك وصل عدد المهجرين إلى 6 آلاف، وبقي عشرات الآلاف محاصرين في العراء وسط برد شديد ينتظرون مأساة تهجيرهم من أحيائهم.
فوجئ المدنيون المنتظرون تهجيرهم، عندما تعثرت عملية التهجير فجأة، بحجة تأخر إخراج أول دفعة من كفريا والفوعة، وعاشوا ساعات رعب حقيقي أكثر عندما أعلنت روسيا فجأة انتهاء الإجلاء، وأن من تبقى في المدينة سيتم حسم مصيرهم عسكرياً بوصفهم “متشددون يرفضون الخروج”، قبل التوصل لاتفاق جديد مع روسيا وإيران لاستكمال التهجير مقابل إخراج الجرحى مع عائلاتهم من بلدتي الفوعة وكفريا المواليتين في ريف إدلب، وإخلاء الجرحى مع عائلاتهم من مدينتي مضايا والزبداني المعارضتين في ريف دمشق.
بعد تعثر عمليات اليوم الثالث، استُؤنفت في رابع وخامس وسادس أيام التهجير، نقل عشرات آلاف المدنيين المحاصرين من حلب، وخرجت دفعتين من كفريا والفوعة إلى مناطق سيطرة النظام في ريف حلب، وفي سابع أيام التهجير عطّلت ميليشيات النظام خروج القوافل وحاولت فرض خروج أعداد إضافية من كفريا والفوعة، وذلك قبل أن تستأنف العملية ويتم إتمام خروج آخر دفعة من أحياء مدينة حلب المحاصرة وذلك في 21/12/2016، وبذلك يعلن النظام السيطرة على كافة أحياء مدينة حلب في مثل هذا اليوم من عام 2016.
حالة أهالي حلب المهّجرين..
حاولت قوات النظام وميليشياته الطائفية أكثر من مرة، عرقلة عمليات التهجير، وفي كل مرة كانت العرقلة تتسبب بوفاة أشخاص إما بإطلاق الرصاص أو الأحوال الجوية الصعبة وظروف الجوع والمرض الناجمة عن حصار الأهالي من قبل النظام وميليشياته.
وُصفت أوضاع المهجرين من حلب بأنها كانت “مزرية للغاية”، حيث كان معظمهم يعانون من الأمراض بسبب الحصار، وفي إحدى عرقلات الخروج توفي ثلاثة مدنيين بينهم رضيع عمره ساعات في أحياء مدينة حلب، بسبب غياب الرعاية الصحية وانخفاض درجات الحرارة.
وفي المراحل الأخيرة ما قبل التهجير، حشر في رقعة جغرافية صغيرة أكثر من 50 ألفاً من المدنيين، ولم يعد سقوط القذيفة يصنف قصفاً عشوائياً، حيث ما من موضع ستسقط فيه إلا وستوقع عشرات الضحايا وهذا ما وقع فعلا أثناء نزوح أهالي حي جب القبلة.
حتى أن الكثير ممن وُجدوا مصابين في الطرقات لم يستطع أحد تقديم شيء لهم، إذ لا مشافي ولا نقاط طبية ولا معدات ولا حتى شاش أو ضمادات، فكان في بعض الأحيان يُنقل المصاب من وسط الطريق إلى جانبه ليلفظ أنفاسه الأخيرة وحيداً شريداً طريداً.
عدد المحاصرين المهجرين من حلب..
أعلن المجلس المحلي لمدينة حلب عند التهجير، أن عدد من تم تهجيرهم بلغ أكثر من 6600 عائلة، بينهم 1052 عائلة وصلت ريف حلب الغربي، و5552 عائلة وصلت إلى الريف الشمالي.
وبالنسبة لعدد الأشخاص، فقد تكرر الحديث عن وجود أكثر من 100 ألف محاصر في حلب الشرقية، فيما قُدّر عدد من تم تهجيرهم بين 50 ألف و80 ألف شخص، وذلك مع عدم تمكن العديد من المدنيين والمرضى وكبار السن من الخروج من بيوتهم مع تقدم قوات النظام والسيطرة على مناطقهم.
إدانة التهجير القسري..
أدانت العديد من الهيئات الحقوقية السورية والدولية، عمليات تهجير أهالي حلب الشرقية باعتبارها “تهجير قسري”، واعتبر مركز توثيق الانتهاكات في سوريا في تقرير له، أن تهجير أهالي حلب الشرقية هو “تهجير قسري للمدنيين والسكان بحسب أحكام القانون الدولي الإنساني، وهو جريمة حرب موصوفة بحسب المواد 6 و7 و8 من نظام روما الأساسي”.
مصير من سلم نفسه إلى النظام هرباً من الحصار والتهجير..
رغم دعوة روسيا والنظام المتكررة للأهالي -عبر الإعلام والقصاصات الورقية المرمية من الطائرات- للخروج من مناطق المعارضة بحلب إلى مناطق سيطرة النظام عبر “المعابر الآمنة”، إلا أن كثير من المستجيبين واجهوا ما هو متوقع فعله بهم من قبل النظام، حيث اعتُقل العديد من الشبان تعسفياً دون ورود أي خبر عنهم منذ ذلك الوقت، وأعيد اعتقال العديد ممن أفرج عنهم إثر ذلك، فيما تمت تصفية البعض الآخر أو وفاته تحت التعذيب في سجون نظام الأسد.
إسدال الستار..
ومع نهاية عام 2016، أسدل الستار عن إحدى أكبر عمليات التهجير القسري بحق الأهالي في التاريخ الحديث، على مرأى ومسمع جميع دول العالم، بل وتحت رعاية بعض “الدول العظمى”، فيما اكتفى مجلس الأمن الدولي والأمم المتحدة بعقد الاجتماعات وإطلاق التحذيرات والمخاوف، رغم أحوال المحاصرين الموثقة، والمطالبات والوقفات الاحتجاجية المطالبة بحمايتهم في سوريا والعديد من الدول.