عبدالرحمن نجار – كاتب سياسي
بينما كنت أستمع إلى محاضرة بعنوان “الدولة والحقوق”، كان هناك حالة من الاستفهام بل من السخرية تراودني دون أن أشعر حول ما يتناوله البروفيسور ويشرحه لنا فيما يتعلق بفلسفات توماس هوبز وجون لوك بشأن الدولة، والطبيعة، والحقوق، والشعوب، وبينما كنت مندمجًا في حديثه، وجدت نفسي دون أن أشعر أُقارن بين ما تم تناوله من أفكار وما مرّ به شعبنا السوري من تجارب، فلقد تحولت سوريا خلال العقد الأخير إلى رمز لقضية حقوقية وإنسانية معقدة وغير مسبوقة، إذ تعرض الشعب السوري لانتهاكات جسيمة شملت التهجير القسري، القصف بمختلف أنواع الأسلحة، بل وحتى عمليات إبادة جماعية استهدفت مدنًا وبلدات بأكملها، والأشد إيلامًا في هذه القضية أن هذه الانتهاكات لم تصدر عن قوى غازية خارجية، بل عن النظام الحاكم، الذي يُفترض به أن يكون الضامن لأمن واستقرار شعبه، ومع مرور السنوات وتصاعد حدة الصراع، ازدادت معاناة السوريين الذين يجدون أنفسهم ضحايا في وطنهم، يعانون قمع نظام الأسد تارة، ومن صعوبة اللجوء إلى الخارج تارة أخرى.
دفع الشعب السوري ثمنًا باهظًا في البحث عن حقوق إنسانية أساسية، مثل الأمان والكرامة، في ظل إخفاق المجتمع الدولي في تأمين هذه الحقوق أو توفير ملاذات آمنة، وكيف لا تثير هذه القضية تساؤلات جدية حول مدى قدرة النظام الدولي، بتعقيداته السياسية وازدواجيته، على حماية حقوق الإنسان فعليًا. فرغم الشعارات والمبادئ المعلنة التي تلتزم بها الدول الكبرى، إلا أننا نحن السوريون واجهنا عجزًا واضحًا من قبل المجتمع الدولي في الوقوف إلى جانبنا، مما يلقي بظلال من الشك على مصداقية هذه الشعارات في ظل الواقع القاسي.
فلسفات لوك وهوبز.. والنظام الدولي على المحك
في عام 2011، ومع انطلاق الموجة الأولى من الاحتجاجات الشعبية في سوريا، خرج المواطنون إلى الشوارع للمطالبة بإصلاحات سياسية وحقوق أساسية مثل حرية التعبير والكرامة الإنسانية، لكن نظام الأسد اختار الرد على تلك المطالب بالقوة والعنف المفرط، الأمر الذي تصاعد تدريجيًا ليشمل استخدام أسلحة حربية، وحتى الأسلحة الكيميائية، في هجمات استهدفت مناطق سكنية مكتظة، هنا يبرز مفهوم “حقوق المواطن” وفقًا لفلسفة جون لوك، الذي يرى أن من واجب الدولة حماية الحقوق الطبيعية للأفراد، وليس تهديدها، لكن نظام الأسد حوّل المواطن إلى ضحية في وطنه، وأجبره على مواجهة خيارين أحلاهما مر: البقاء تحت التهديد والخوف أو الهرب، إذا طبقنا الواقع السوري على أفكار جون لوك وتوماس هوبس، يظهر التناقض جليًا، بالنسبة للوك، الغاية الأساسية من الدولة هي حماية الحقوق الطبيعية للإنسان؛ لكن ما حدث في سوريا كان العكس تمامًا، حيث كانت الدولة هي مصدر الخطر والتهديد، من جهة أخرى، يؤكد هوبس أن الدولة تُعنى بتوفير الأمن للأفراد مقابل التزامهم بالقوانين؛ لكن هذا التوازن انقلب رأسًا على عقب عندما أصبح نظام الأسد عدوًا لشعبه، والأدهى من ذلك أن المجتمع الدولي لم يتمكن من توفير ملاذ آمن للسوريين، بل تركهم بين حدود مغلقة وأبواب موصدة.
قضية السوريين بين النظريات والممارسات.. وإلى أين؟
تثير قضية السوريين تساؤلات كبيرة حول جدوى الأفكار الفلسفية التي ترتكز على حماية حقوق الإنسان، بل وفاعلية النظام الدولي في تأمين هذه الحقوق على أرض الواقع. لقد كشفت التجربة السورية بوضوح مدى ضعف المؤسسات الدولية والدول المتقدمة، ومدى التناقض بين المبادئ التي تتبناها والواقع العملي على الأرض.
السوريون عالقون بين مفاهيم فلسفية مثالية وأدوات دولية عاجزة، أصبحوا مثالًا حيًا على انعدام العدالة في عالم يفترض فيه أن يسود العدل، ومع أن مفكري العقد الاجتماعي، مثل جون لوك وتوماس هوبز، ينطلقون من مبدأ أن الدولة موجودة لحماية أمن الأفراد وحقوقهم، إلا أن مأساة السوريين تكشف عن فراغ واضح في هذه الفلسفات حينما يتعلق الأمر بأنظمة استبدادية تسيء استخدام السلطة، دون أن يكون هناك نظام دولي قادر على الحد من انتهاكاتها، في ظل هذه الظروف، يُطرح السؤال: هل فشلت الفلسفات القائمة على العقد الاجتماعي في تقديم ضمانات حقيقية للفئات المستضعفة، خاصة عندما يكون المعتدي هو السلطة نفسها؟
النظر إلى الواقع بنظرة براغماتية معاكسة: مقاربة ميكافيلية
من وجهة نظر نيكولا ميكافيلي، على الدولة أن تسعى للحفاظ على قوتها واستقرارها بأي وسيلة كانت، بغض النظر عن الوسائل أو القيم الأخلاقية التي يتطلبها هذا الأمر، وفي هذا السياق، تبدو سياسات نظام الأسد متماشية مع هذه الرؤية؛ فقد استخدم القوة والعنف بهدف الحفاظ على السلطة والبقاء في سدة الحكم، بغض النظر عن العواقب الإنسانية المترتبة على ذلك، بالنسبة لميكافيلي، يبرر الاستقرار السياسي الوسائل المستخدمة، حتى لو كانت قمعية، مما يسلط الضوء على النظرة البراغماتية البحتة للسلطة التي تفضل استمراريتها على الالتزام بحقوق الأفراد، لكن هل يعني ذلك أنه على المجتمع الدولي أيضًا تبني نهج ميكافيلي في التعامل مع الأحداث؟ وهل يمكن أن يصبح الشعب مصدرا للخطر تجاه الدولة من وجهة نظر دولية أو محلية؟ ربما تحتاج الدول إلى المرونة في سياساتها، لكن التزامها بقيم حقوق الإنسان يفترض أن يكون غير قابل للتفاوض، ومع ذلك، يبدو أن بعض الدول، خاصة في مواجهة تحديات قضية السوريين، اختارت الاستجابة بشكل ميكافيلي إلى حد ما، واضعة مصالحها فوق أي اعتبارات أخلاقية أو حقوقية، هذه الازدواجية تطرح تساؤلات جديدة: هل تبنت الدول المعاصرة مبادئ ميكافيلية بطريقة مموهة، لتبرر تجاهلها لحقوق الشعوب أو اللاجئين وتغليبها لمصالحها السياسية والاقتصادية؟
نحو فلسفة حقوقية جديدة
يمكن القول بأن القضية السورية قد أعطت إيعازها لمن يبحث في العلوم الإنسانية اليوم، وهذا الإيعاز مفاده بأنه يجب إعادة تعريف كلا من الدولة والشعب والحقوق والقوانين الدولية، لأن الفلسفات التي تدرس اليوم في الجامعات تبدو بعيدة عن الواقع إلى حد بعيد، فكما نرى في القضية السورية، ربما يكون للحقائق السياسية والجيوسياسية، وكذلك للفساد والاستبداد، دور أكبر من مجرد تطبيق النظريات السياسية، وهذا يستدعي التفكير في كيفية تطوير فلسفات حقوقية تُلزم الدول والمجتمع الدولي فعليا بحقوق الشعوب، دون أن تكون هذه الحقوق مجرد مواد نظرية في الكتب بلا جدوى في مواجهة الاستبداد.
إن الحل يكمن اليوم في بناء نظرية جديدة تتجاوز الأفكار التقليدية لكل من لوك وهوبس، وتدمج بين النظر الواقعي للحكم الذي يطرحه ميكافيلي، والتزام أخلاقي أشد بمتطلبات حقوق الإنسان، كما تحتاج هذه الفلسفة إلى آليات دولية تُحاسب الأنظمة التي تتجاوز حقوق شعوبها، وتُلزم الدول المضيفة بتوفير ملاذات آمنة للفارين من القمع، دون فرض قيود تعجيزية عليهم، وهنا، يبرز استنتاج مفاده بأن القضية السورية قد كشفت عن أن الأطر الحقوقية الحالية لم تعد كافية، ويحتاج العالم إلى رؤى جديدة تتجاوز المثالية النظرية، لتترجم إلى سياسات فعلية تُعيد للسوريين وغيرهم من الشعوب المستضعفة حقوقهم وكرامتهم، وتضع حدًا لعذاباتهم.